رواية المفتون

رواية المفتون

تأليف : عزيز السيد جاسم

النوعية : روايات

حفظ تقييم
رواية المفتون بقلم عزيز السيد جاسم.. كتب عزيز السيد جاسم روايته الثالثة المفتون سنة 1987، بعد روايته "المناضل" و"الزهر الشقي" والرواية فريدة من نوعها كونها واحدة من النصوص القليلة المعنية بوضع العراق الحديث من 1958.

لكن المدقق في الرواية يدرك أنها تلم البلاء الذي نكبت به البلاد، منذ أن اعتلى دفة الحكم فيها نظام شعاراته تبرر له وحده التحكم بالحياة العامة للناس، فكان أن ضاعت المقاييس وانعدمت الأنظمة والقوانين، وكثرت التصرفات الاعتباطية، وأصبحت الحياة مشدودة بالقوة إلى ما يأتي من الأعلى. وهكذا كثر الترحم على العهد الملكي، وصدرت مقالات وكتب كثيرة منذ خاتمة الستينات، كلها تبكي حياة مضت.

والرواية لا تأتي إلى هذا الواقع بهذه المباشرة، لأنها فريدة في استنطاق الباطن القصي البعيد للشخصيات القليلة التي تنفرد بالحوار. فـ"المفتون" رواية حوار أولاً، ولأنها كذلك لا تستقصي الوصف التفصيلي. فالحوار بن يوسف اليعقوبي والطبيب هارون هو السائد، تتخلله حوارات بين بعض النسوة، كبيداء، وبين الطبيب هارون، أو بينها وبين أخريات.

كما أن الطبيب يمكن أن يستقطب آخرين، أمثال سالم اليعقوبي، والد يوسف أو زوجة المطلقة. هذه الحوارات هي بدائل الوصف، كما أنها عدة السرد الأساس الاستجماع التعددية الصوتية التي تزخر بها الرواية، فتأتي بالمكان، الريف والمدينة، في زوايا ومواقع محددة، كالعيادة الطبية والمستشفى والسجن، لتحكي لنا ما يعلنه فوكو منذ السبعينات في أن هذه المواقع غالباً ما تفسر هيمنة ما، طاغية، متقلبة، ومتغيرة باستمرار.

إنها أمثولات العقلية الغالبة، تلك التي تشغف بالسيطرة، وتسعى باستمرار لتحويل الآخرين إلى هامشيين تابعين، خاضعين للبحث والتجريب والإدارة، والهيمنة الكلية لإداراتها, ويمكن أن نبتعد قليلاً في التأويل، فنقول أنها مواقع لمرموزات أوسع: فالأوطان في أنحاء معينة من العالم لم تعد حرة، ولم يعد استلابها على أيدى المستعمرين، منذ أن تحررت سياسياً. فتسلط عليها نفر من أبنائها، تدربوا-بوعي أو بدونه-على أسوأ ما لدى المستعمر، وأضافوا إليه ما ورثوه من ثأر داخلي ضد واقعهم الشخصي أو الاجتماعي، فمارسوا ظلماً اجتماعياً وطغياناً لم يدر ببال المستعمر من قبل.

و"المفتون" تأتي بالشخوص في لحظة الالتباس الفريدة، تلك التي يعلن فيها يوسف اليعقوبي إنه شخصية منفصمة منذ أن جرى تعذيبه وهو لم يزل شاباً يافعاً لتهمة سياسية باطلة. إنه الذكر الجميل المغري لنصف عام والذي يغرقه الجدب في النصف الآخر، فيكون أنثى، وهذا اللبس على صعيد الجنس والنوع يعيد الشخوص إلى العمق الأسطورى، عمق تموز وعشتار، حيث يتبادل الخصب والجفاف، الربيع والخريف، الحب والموت، في إيقاع متصل، لا يحكيه غير ذلك التفجع الذي يسكن الفرح والحزن، في الكتابة والغناء، بين ضفاف الرافدين.

... الذي يميز هذه الرواية هو أن حوارها يحتوي مجموعة من اللغات، التي يتقاطع بعضها مع بعضها الآخر، فينفرط الصوت في لغات متعددة تأخذ من الهضاب والأعالي والسهول والسجون والمستشفيات لغاتها الخاصة. وهكذا يكون صوت خلف الأعوار، بجئيره، الوجه الآخر للطغيان، فهو مجنون يمارس سطوته من موقعه في تلة عالية تتيح أن يرى الآخرون نثاياه وحريمه. إنه الوجه الدفين للمتسلط. لكنه محاصر بجنونه الذي يقصيه عن الآخرين، بينما يمده بمناعة خاصة وصوت رعيب، وعالمه، بعد ذلك، هو (الغروسك): عالم المتسلطين عندما يتمدد ويتضخم خارج حدود الواقع، فيبدو بمثل هذه الأوضاع المثيرة للضحك مرة وبتباعد الآخرين عنها مرة أخرى.

وبمثل هذه السعة، تقدم هذه الرواية بعد آخر للكتابة السردية، تلك التي بمقدورها أن تقول الكثير في فسحة صغيرة نسبياً: و"المفتون" بعد هذه التوطئة القصيرة، رواية ما بعد الاستعمار بامتياز. إنها من بين النصوص الفريدة التي تستكمل ما كتبه قانون في "المعذبون في الأرض" عن ولادات الدولة المريضة.