كتاب الأنهار بقلم عبد الرحمن مجيد الربيعي.."بغداد مرعبة، مطوقة بالصمت الغائر بمليون حكاية. والمقاهي والدروب والمحلات العامة الأخرى مزروعة بالمخبرين السريين الذين ينقلون بتقاريرهم مسيرة الاحتجاج التي يشهرها الناس. وقد طوقوا مقهى "البرلمان" قبل يومين واعتقلوا بعضاً من رواده الشباب وقد أفلت صلاح بأعجوبة. ودخل قاعة التماثيل الآشورية، وأخذ يدور فيها، وقد زكم بالحيرة والقنوط، ولم يقوَ على الوقوف الطويل فالتجأ إلى قاعة أحد التماثيل وتهالك فوقها. ولكن وجوه زملائه اقتحمت وحدته، وأحاطت به كالتماثيل. ياسمين فوزي بكل بهائها وكبريائها؛ خالدة عمر بوجهها الصغير، ولثغتها الودودة؛ خليل الراضي؛ حسين عاشور. ثم استل ورقة من دفتر الرسم، وكتب رداً لهدى على رسالتها:
"تسأليني عن أخباري، وكأنك تتوقعين أن يكون فيها مدار الحصان المعصوب العينين الذي يسحب نواعير الماء. أتسمين جديداً ذهابي المنتظم إلى المتحف لأقرأ وأرسم؟ مرات أذهب إلى الكلية وألتقي ببعض الزملاء...". وبعد أن أنهى كتابة الرسالة زفر بارتياح، وتمتم مع نفسه: لقد تقبلت بنود المعاهدة، ووقعتها بكامل وعيي. سأتزوج هدى وأحتجب في مدينة أخرى ليس فيها ذكر لأحد من أولئك الذين عرفوها قبلي. ومن حسن حظي أنني لم أعرف أحداً منهم. وإن عرفته ربما انقلبت الأمور. ليذهب هذا العالم بسفالته، ولنخرس كل الأفواه التي يتكدس شرفها في ثقوبها فقط. واحتدمت عيناه بالمقت وهو يواصل البوح مع نفسه:..".
يحكي عبد الرحمن مجيد الربيعي قصة مجموعة من الشبان الذين كانت بغداد تضمهم، طلبة جاؤوها من مدن العراق المترامية ليدرسوا الرسم، وفي رؤوسهم أحلام كبيرة من الضوء والمجد. وكان البلد آنئذ يغور بالأحداث والتظاهرات بسبب نكسة السابع من حزيران عام 1967. تتوالى الأحداث ليعكس الروائي ومن خلال صفة روائية ماهرة عمق تأثير الحالة السياسية في نفس الإنسان العربي الذي يقع ضحية اللامصداقية في الشعارات المطروحة من قبل الزعماء وخطاياهم. إذ أن نفوس الشباب كانت مجيشة، وعزائمهم مستنفرة للمضي إلى تل أبيب.
تمضي الرواية في تصوير شخصياتها وفي بيان التجاذبات الداخلية ضمن كل شخصية وما بين الشخصيات بصورة عامة، لتبرز في جزء كبير منها عذابات الفنان المتأثر أكثر من غيره بواقعه المتناقض الملامح.