كتاب العلم في مرآة الحضارة .. الجزء الثاني من تأليف محمد وائل دعبول .. خلق الله الإنسان وخلق له فطرة سليمة يستطيع من خلالها أن يستقصي هذا العالم الواسع الذي أعطاه الله مفاتيحه. تلك المفاتيح هي الحواس الخمس إلى جانب نعمة خص الله بها الإنسان عن سائر مخلوقات هذه الأرض. إنها نعمة العقل. فبالحواس الخمس بمكن للإنسان أن يسبر أعماق هذا الكون ويجمع المعلومات المختلفة عن محيطه. هذه المعلومات التي يجمعها الإنسان في كل لحظة من لحظات عمره يجري تخزينها في مراكز الذاكرة داخل الخلايا العصبية في الدماغ. ومن خلال العقل الذي حباه الله للإنسان يقوم الإنسان بمعالجة تلك المعلومات التي سبرها ليكوّن بعد المعالجة تصورا شاملا دقيقا عن هذا العالم البديع الذي يحيط به. هذا التصور المعرفي بالمحصلة هو في حقيقته العلم الذي يدركه ويحققه بتلك المعالجة. فكلما كانت الفطرة سليمة كلما كانت المعالجة أكثر صوابية ووضوحا بحيث تجعل هذا الإنسان في النهاية يستشعر عظمة المبدع الكريم في بديع خلقه، مما يوجب عليه شكره على آلائه و أفضاله. أما إذا انحرفت الفطرة أو ضل العقل، فإن المعالجة ستتأثر تبعا لذلك تأثرا يرتبط بعمق الخلل في كل منهما. وهكذا لابد أن ينجم عن ذلك الخلل رؤية ضبابية تزداد كثافتها بكثافة الآفة. عندئذ سيتأتى عن ذلك عيب مباشر في فهم الإنسان لعالمه، يتظاهر ذلك بشكل ما بضلال في علمه وتمييزه لواقعه ومحيطه.
لقد حاول العديد من الباحثين منذ القديم أن يقدموا تعريفا شاملا للعلم يجمع بين ثناياه ما يعتقدون أنه سيمثل في النهاية الحقيقة المطلقة. تلك الحقيقة التي يرون من خلالها أن ما طابقها هو الحق الذي لا يأتيه الباطل وما خالفها هو الباطل الذي لا يعتريه الحق. لكن الإنسان نظرا للمحدودية المعرفية عنده ونظرا لتوجهه الثقافي الذي تفرضه عليه بيئة المجتمع الذي يعيش فيه، ونظرا للفلسفة التي يحملها، فإنه عادة ما قدم تعريفا متحيزا للعلم لا يرتقي إلى مستوى التعريف الشامل الدقيق.