كتاب الوعي القومي

كتاب الوعي القومي

تأليف : قسطنطين زريق

النوعية : نصوص وخواطر

حفظ تقييم

كتاب الوعي القومي بقلم قسطنطين زريق مقدمة الطبعة الأولىرقد العرب بعد نهضتهم الكبرى في العصور الوسطى قروناً طويلة نسيهم فيها العالم ونسوا أنفسهم ، واستكانوا للظلم والجهل والفقر المادي والروحي ، تجرهم الحياة عضواً مشلولاً في الجسم الإنساني ، حتى إذا بدت طلائع القرن الماضي ، حاملة معها نسمات روح جديدة ، تهب بها عليهم حضارة الغرب الحديثة ، أخذوا ينتعشون تدريجاً ، ويفتحون عيونهم لاستقبال نور الحياة المشرقة عليهم مقدمة الطبعة الأولىرقد العرب بعد نهضتهم الكبرى في العصور الوسطى

 قروناً طويلة نسيهم فيها العالم ونسوا أنفسهم ، واستكانوا للظلم والجهل والفقر المادي والروحي ، تجرهم الحياة عضواً مشلولاً في الجسم الإنساني ، حتى إذا بدت طلائع القرن الماضي ، حاملة معها نسمات روح جديدة ، تهب بها عليهم حضارة الغرب الحديثة ، أخذوا ينتعشون تدريجاً ، ويفتحون عيونهم لاستقبال نور الحياة المشرقة عليهم ، المهيبة بهم إلى النهضة والعمل لاحتلال المنزلة اللائقة بهم بين الأمم . بدأت هذه الروح الجديدة تهب عليهم نسمات خفيفة رقيقة ، ثم أخذت تتتابع وتقوى بتقدم القرن الماضي والسنين الأولى من القرن الحاضر، حتى كانت الحرب العظمى فإذا بتلك النسمات قد أصبحت ريحاً شديدة ، بل عاصفة هوجاء تتلاعب بالأمة العربية ، وتقذف بها ذات اليمين وذات الشمال .وما زال العرب اليوم يعيشون في وسط هذه العاصفة ، وفي ملتقى التيارات المنصبة عليهم من كل صوب وناحية . فإذا نحن تقصينا الأثر البارز للقوى العظيمة المتفاعلة وإياهم وجدناه في هذه الهبة القومية التي تدفعهم إلى استكشاف أنفسهم ، وتحرير أفرادهم ومجموعهم ، واستعادة سالف مجدهم ، واثبات مكانتهم في المجتمع البشري . وما من أحد يلمس الحياة العربية الحاضرة الا ويشعر بهذه الهبة المرتفعة من صدور العرب في شتى أقطارهم ، المبشرة بنهضة جديدة، يرجى لها ما كان لسابقتها من عز منيع ، ومجد رفيع ومساهمة ذات شأن في تقدم التمدن الإنساني .على أن هذا الانبعاث القومي الجديد ما زال في طور الهبوب والفوران : يقترب منه المرء فيشعر بقوته ، ويُلفح بناره ويلمس بيده الحياة المتوثبة التي تجيش فيه .من حق كل عربي أن يزهو به ، ويملأ صدره أملاً بما سيؤول إليه ، واستبشاراً بما يحمل في طياته من خيرعميم لأمته وللإنسانية جمعاء . غير انه من الخطرأن يبقى في هذا الطور، وان يتدفق كله عاطفة متحفزة وشعوراً صارخاً . انه يجب أن يتقدم إلى طور التفكير الهادىء المنظم، ويشرق بنور العلم المدرك الواعي ، ويخرج عقيدة قومية متينة الأساس ، مرصوصة البنيان، تستقر في النفس فتملأها قوة وعزما وتبعث فيها إيماناً يزحزح الجبال .أجل ! ليس من أمل للنهضة القومية العربية ما لم تكن مستمدة من ” فلسفة ” قومية تصور روحها ، وتحدد اتجاهها ، وتنصّب لها الأهداف ، وتعين لها السبل والوسائل . أقول هذا وأنا أعلم أنني سأثير عند كثير من أبناء الأمة – بل بين العاملين في الحقل القومي أنفسهم – ما يرسم الابتسام والسخرية على الوجوه ، وبيعث الشك والربية في النفوس . فالوقت عندهم وقت جد وجهاد، لا مجال فيه لفلسفة ونظريات ، و حالة الأمة تدعو إلى عمل وكفاح ، لا إلى بحث وكلام. وما ضرّ العرب – في نظرهم مثل المناقشة والمجادلة الكلامية ، وما نفع الغرب مثل التشمير عن ساعد الجد والنهضة للعمل والإنتاج .فلأبادرإلى تطمين من تخامرهم هذه الشكوك اني أبعد الناس عن التقليل من قيمة الجهاد والكفاح في شتى نواحي الحياة ، واني أسرعهم للدعوة إلى تأثر الغرب في العمل المنتج والهمة الفعالة . ولكنني متيقن ، في الوقت نفسه ، من أن ذلك الجهاد لا يبلغ غايته إلا إذا كان مدعوماً بفكر واضح نيّر، وان هذا العمل لا ينتج حقاً لا إذا صدر عن رأي بصير وعقل مدبر . وأقرر، غير متردد ولا متحفظ ، ان ما من نهضة قومية تحريرية قامت في العالم إلا وسبقتها أو لازمتها نهضة فكرية مهدت لها الطريق ، ورسمت أمامها الغاية ، وأوضحت لها المعالم والحدود ، وان المناقشة والمجادلة ماضرت العرب في عصور غفلتهم إلا لأنها كانت بعيدة عن حياتهم ، غريبة عن الجو الذي كانوا يضطربون فيه ، وأن الجد والعمل ما نفع الغرب إلا لأنه بُني على الفكر المنظم ، والعقيدة الواضحة ، والفلسفة الشاملة .فإذا أردنا لهذه النهضة القومية العربية أن تستكمل شروطها ، وتؤتي ثمارها ، لم يكن لنا غنى عن ثلاث خطى رئيسية يترتب علينا اتخاذها بحزم ونشاط : أولها بناء الأساس الفكري الذي تقوم عليه هذه النهضة القومية ، وذلك بدرس غاياتها ووسائلها ، وتحديد معنى الأمة العربية، واثبات خصائص الأمة العربية ومميزاتها ، واظهار مقامها الفريد بين الأمم والنصيب الذي كان لها في الماضي والذي يرجى لها في المستقبل في تقدم التمدن والحضارة البشرية : أو، بكلمة أخرى، انشاء ” فلسفة قومية ” شاملة واضحة منظمة . ولكم تضطرب نفسي حين يطلب مني أحد المهتمين بالقضية العربية من كتّاب الغرب ومفكريه ان أطلعه على ” نظرية ” القومية العربية، أو أن أضع بيده ما يقوده إلى المعين الفكري الذي تنيع منه ، فأجدني فارغاً إلا من بضع مقالات وأبحاث قليلة الغنى ضيقة المدى ، فأفكر في التبعة العظمى الواقعة على عواتق كتّاب العرب وقادة الرأي فيهم ، وأتساءل عما إذا كانوا يقومون حقاً بواجبهم ويؤدون مهمتهم .أما الخطوة الثانية فهي ان تعصر هذه الفلسفة في فكرة مقطرة نقية صافية يتشربها أبناء الأمة وتمتزج بعاطفتهم المتوثبة وشعورهم الفياض ، فيحصل من هذا المزيج المبارك “عقيدة” قومية ، تسير بأفراد العرب وجماعاتهم قدما إلى الأهداف الصحيحة ، وتملأ نفوسهم عزماً وأملاً ، وتشيع فيها معنى وسموّاً وجمالاً .وأخيراً يتخذ العاملون في الحقل القومي الخطوة الثانية ، فيجاهدون لـ “تنظيم ” الأمة العربية ، وضبط نوازعها ، وإخضاع شهواتها وإرادتها للإرادة الوحيدة المنبعثة من “العقيدة” الواحدة ، فيدرّب رجال الامة ونساؤها على العمل المنظم الصادر عن الفكر المنظم والمكمّل له .على هذه الأركان الثلاثة : الفلسفة القومية ، والعقيدة القومية ، والتنظيم ، تقوم كل نهضة قومية صحيحة ، وإليها يجب أن يوجه العرب جهودهم في هذا الدور التأسيسي من حياتهم الجديدة ، لتكون نهضتهم قوية البنيان ، ثابتة على الزمان .***ولا غرو في أن الخطوتين الأوليين ، على الأقل ، هما من واجب مفكري الأمة ، وقادة النظر والبحث فيها . فمنهم – لا من رجال التنفيذ المتوسطين ميدان العمل – يطلب هذا النوع من التفكير الايضاحي المنظم الذي تبينا ما له من مقام في النهضة القومية الصحيحة .إزاء هذا الواجب الجلل يحق لنا أن نتساءل : ماذا عمل رجال الفكر العربي ، وإلى أي حد بلغوا في القيام بتبعتهم الخطيرة ؟ لا أخالني مشتطاً في الحكم أو مغالياً إذا قلت إنهم لم يأتوا من هذا القبيل بما يغني أو يفيد ، بل ان كثرتهم لم تتنبه بعد إلى هذه المهمة الدقيقة التي تنتظرها. ولأكتف بدليل واحد على ما أقول :في شهر نيسان الماضي أصدرت إدارة الهلال عدداً ممتازاً موضوعه : ” العرب والإسلام ” حرره كبار كتاب العرب وأدبائهم ، وقادة السياسة والاقتصاد والاجتماع فيهم . على أن من يطالع المقالات الوافرة التي تضمنها هذا العدد الفخم ، يلاحظ فوراً الفوضى في التفكير القومي التي يتخبط فيها زعماء الرأي بيننا . فليس ثمة تمييز واضح بين ” الأمة العربية ” ، وبين ” العروبة ” و”الشرق ” و”الإسلام ” ، وليس ثمة فهم نافذ للنهضة القومية ، أو برنامج منظم لوسائل بعثها واحيائها . وأنك لتقرأ المقالة الواحدة فتصدمك المتناقضات النافرة التي تنكرها أبسط قوانين التفكير القومي الصحيح .اسمع ، مثلاً ، ما يذكره الدكتور طه حسين في مقاله : ” في العقل العربي الحديث ” (ص 49) حين يحاول التمييز بين العقل العربي القديم والعقل العربي الحديث في النظر إلى الوحدة العربية : ” وربما كان من الأمثلة الظريفة الطريفة التي تبين الفرق بين العقل العربي القديم ، والعقل العربي الحديث في هذا العصر الذي نعيش فيه مسألة الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية التي يكثر فيها الكلام وتشتد فيها الخصومة ، فما أظن أن الناس يختلفون في أن هذه الوحدة نافعة للشعوب العربية وللشعوب الإسلامية أشد النفع ، وفي أن مصالحهم تدعوهم إليها وتدفعهم إليها دفعاً ، ولكنهم مع ذلك يختلفون ويختصمون لا لشيء إلا لأنهم يختلفون في تصور هذه الوحدة حسب ما يتاح لهم من العقل القديم أو العقل الحديث . فأما أصحاب القديم فيفهمون هذه الوحدة كما يفهمها القدماء في ظل سلطان عام شامل يبسط عليها جناحيه ويحوطها بقوته وبأسه… وأما أصحاب العقل الحديث فيفهمون هذه الوحدة على نحو ما تفهم عليه في البلاد المتحضرة بالحضارات الحديثة الأوروبية ، يفهمونها على أنها لا تنفع ولا تفيد إلا إذا احتفظت بالقوميات والشخصيات الوطنية والحريات الكاملة لأعضائها والسيادة العامة لهم في حياتها الداخلية والخارجية وقامت على الحلف . الذي لا يفني أمة في أمة ولا يخضع شعبا لشعب ، وإنما يمكن الأمم من أن تتعاون على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة ” . ألست ترى هذا الالتباس المرتبك بين ” الوحدة العربية ” و” الوحدة الإسلامية “، وهذا الاضطراب الشديد في فهم ” الوحدة ” و” الحلف ” والتمييز بينهما ؟ فكيف يمكن ” وحدة ” أن تحتفظ بـ “القوميات ” وتقوم على ” الحلف ” ، في حين أنها تتناول جوهر الأمة الواحدة وتنبعث من مميزاتها الخاصة وقوميتها الثابتة ، ولا تكتفي بروابط ” الحلف ” الخاضعة في الأكثر لتقلبات الأحداث والمصالح والظروف السياسية وسواها ؟ومثل هذا الارتباك – بل أشد منه- في مقالات كثيرة في هذا العدد . وقد يخفف عند بعضنا من خطورة هذا الأمر، أن معظم كتاب هذا العدد من رجال العهد “المخضرم ” الذين لا ينتظر منهم تفكير قومي خالص ، وان المجلة تصدر في مصر حيث الفوضي في النظر إلى النهضة القومية العربية ومقام مصر منها بصفة خاصة . ولكن تبقى ، على كل حال ، الحقيقة المرة الأليمة وهي أن من يحتل المقاعد الأمامية في حياتنا الفكرية بعيدون عن أهم واجب عليهم في أخطر دور تمر فيه أمتهم .ولست أنكر أن فئة قليلة من قادة الشباب العربي – في الشام والعراق خاصة – أخذت تنحو النحو المنشود، وتحاول أن تفكر تفكيراً قومياً سليماً مبنياً على العلم الصحيح وعلى اختبارات الأمم الناهضة ، وان بعضها بدأ يعبّر عن هذا التفكير ويسعى لنشره ، ولكن هذه الجهود لا تزال في مراحلها الأولى : فالعدد قليل ، والخطى بطيئة حائرة ، ووسائل الجمع والتنظيم التي تؤمن صدور تفكير موحد تكاد تكون في حكم العدم . أما أكثر الشباب ” المثقف ” فهو منصرف عن معالجة القضايا الحيوية التي تتمخض بها النهضة القومية إلى النتاج الأدبي الذي أقل ما يقال فيه انه – في كثرته الغالبة – بعيد عن حاجات الأمة الحقيقية ، لا يمس جوهر حياتها الحاضرة أو كيانها المقبل . أين نحن من البحث الخصيب في مواردنا الطبيعية ومرافقنا الاقتصادية وطرق بعثها واستغلالها إلى ما يكفل لنا عيشاً مكفياً وكياناً منيعاً ؟ أين نحن من التفكير الاجتماعي الرصين الذي يعالج أزمتنا الأخلاقية وتدني مستوانا الروحي في الأسرة والمدرسة والدولة ، بل في جميع منظمات مجتمعنا ؟ بل أين نحن من النظرة الأدبية الصائبة التي تدرك مقام الأدب الصحيح في نهضة الأمم – الأدب المستمد من الحياة ، المكيف للحياة – فتتجه إليه ، وتدفع صاحبها إلى مجاهدة نفسه لإنتاجه وتلقيح أبناء أمته به ؟ وبكلمة وجيزة ، أين نحن من التفكير المنظم في أي من الأسس الحقيقية التي تشاد عليها النهضات القومية الثابتة ؟من أجل هذا، كنت ولا أزال أدعو إلى وجوب أخذ مفكرينا بهذا النوع من البحث والتفكير، مع درس نهضات الأمم الأخرى وما رسمت لنفسها من غايات وما نهجت من سبل، والنظر في مزايا الأمة العربية وسجاياها الخاصة ، لكي يستخرج من هذا كله الأساس الفلسفي الذي عليه تشاد العقيدة القومية العربية . وكنت لا أزال أدعو القلة من رجالنا المفكرة تفكيراً قومياً صحيحاً إلى وجوب ضم جهودها لإنشاء هذه العقيدة القومية ودفعها إلى الأمة صريحة واضحة منظمة لتتغذى بها نفوسها وتتوحد أهدافها ومراميها . بهذا- وبهذا وحده- يكتسب تفكيرنا وعملنا الاستقرار المنشود ، ومنه – دون غيره – نستمد النور الذي يهدينا سواء السبيل .***ليس هذا الكتاب الذي أضعه الآن بين أيدي القراء بحثاً منظماً في العقيدة القومية على النحو الذي وصفت . فليس لي من استعدادي الحاضر ما يؤهلني لمثل هذه المهمة الخطيرة ، ولا من فراغ البال وسعة الوقت ما يتطلبه هذا العمل الجليل . وإنما هي ” نظرات ” ألقيتها على حياتنا القومية ، ثم لملمتها وجمعتها بين دفتي كتاب ، آملاً أن يكون منها بعض النفع في العمل التوجيهي المفروض على جميع رجال الفكر في الأمة في الوقت الحاضر. وهي- وإن كانت فصولاً مستقلة وضعت في مناسبات وأحوال مختلفة – تؤلف وحدة فكرية روحية بما تصدر عنه من عقيدة واحدة تشيع فيها جميعاً . تتناول الفصول الستة الأولى معنى القومية ، ومقام المرأة فيها ، وعلاقتها بـ ” التربية ” ، و” الجنس ” ، و” الدين ” ، و” العمل الاجتماعي “. وتبحث الفصول الخمسة التالية في مظاهر من حياتنا الثقافية مشيرة إلى بعض نواحي النقص فيها، ملمحة إلى المثل الثقافية العليا التي يجب أن نتطلع إليها . ويكشف الفصلان الأخيران عن بعض المنابع الروحية التي تغذي النهضة القومية ، والتي لا غنى لهذه النهضة عن مائها النمير واكسيرها المحيي إذا أريد لها العز والمجد والنمو، بل مجرد البقاء.لئن كان هذا الكتاب بعيداً عن البحث المنظم الشامل الذي تتفتح عنه العقيدة القومية العربية ، فلقد أقدمت على نشره- على أنه خطوة أولية متواضعة- معتمداً في ذلك على أمرين : أولهما أملي بأن يكون منه ما يبعث على التفكير الصحيح في القضية القومية وما يساعد على بلوغ ذلك النسق من البحث القومي الذي وصفته في هذه المقدمة ، والثانى شعوري بأن فصوله كتبت تحت ضغط التبعة التي يجب على كل حامل قلم تحملها تجاه أمته في هذا الظرف الدقيق من حياتها. وحسبي منه أن يحقق ذلك الامل، وأن يكون في هذا الشعور بالتبعة الفكرية الذي يسري في طياته، ما يشفع بما فيه من نقص أوخلل .للتحميل:https://docs.google.com/file/d/0B1hVH...