كتاب اولويات منهجية في فهم المعارف الدينية

كتاب اولويات منهجية في فهم المعارف الدينية

تأليف : كمال الحيدري

النوعية : الفكر والثقافة العامة

حفظ تقييم
كتاب اولويات منهجية في فهم المعارف الدينية بقلم كمال الحيدري..لا توجد حضارة من حضارات العالم إلا وشهدت تنوّعاً في المذاهب المنضوية تحتها، واختلافاً في التيارات والاتجاهات الفكرية الصادرة عنها، حتى بات الجميع ينظر إلى هذه الظاهرة كعلامة على حيوية هذه الحضارة أو تلك، وخصوبتها الإبداعية،


مما دفع كثيراً من المختصّين بتاريخ الحضارات في العصور الحديثة
إلى افتراض أن جمود حضارة مّا، وانغلاقها على نفسها، وقمعها
للتنوّع الفكري الداخلي فيها، أحد أهمّ أسباب انحلال تلك
الحضارة وتراجعها وانحسارها عن المسرح العالمي.
والحضارة الإسلامية ليست بدعاً من تلك الحضارات التي
شهدت في تاريخ ازدهارها هذا الأمر، ليس لأنها شهدت، هي
الأخر ى، تنوّعا مذهلاً في المذاهب والتيارات الفكرية فحسب،
بل ولأن هذا التنوّع دفع أطرافه إلى خوض نقاشات ثرية فكرياً
من أجل أن يدعم كلُّ طرفٍ رأيه ومذهبه.
نعم، لم تكن قصّة تلك النقاشات على مستوىً واحدٍ من
الجودة والالتزام بقواعد العلم وضوابط آداب البحث، ولا علىمستوىً واحدٍ في تصوُّرها لدور العنف وتوظيفه في حسم تلك النقاشات. فلا نعدم وجود نقاشات انتهت إلى احترابٍ فكري
وتكفيرٍ دينيٍّ أودى بالكثير من أرواح المسلمين، من أجل نصرة
بعض الأفكار والمعتقدات؛ في بعضها يتحمّل الطرفان إفرازات
هذا الاحتراب، وفي أغلبها يقع الوزر على الطرف المتغلّب على
السلطة، والماسك بزمام الأمور على أرض الواقع.
إلا أن من حسنات العصر الحديث الذي نعيش فيه، أنه قلّص
كثيراً من وجود أمثال تلك الظواهر، وفسح المجال للناس ليقولوا
ما يشاءون ويعتنقوا ما يريدون من مذاهب وأفكار؛ بدون إكراه
أو قسر؛ مما أعطى فرصةً كبيرةً للمعتقدات السليمة والصادقة أن
تجد لها فسحة من الحركة ومساحة من الأنصار والأتباع لم تكن
لتتمتع بها في وقت سابق، حين كانت السلطة السياسية تشدِّد من
قبضتها على حياة الناس الخاصّة، وتحول بينهم وبين خياراتهم
العقدية والفكرية، ولم يشذّ عن عدّ هذا التحوّل كحسنة من
حسنات العصر الحديث إلَّا ثلّة ضئيلة رأت في هذا الواقع الجديد
مصدر قلق على متبنيّاتها الفكرية، فاختارت أن تعتمد العنف
كاستراتيجية لقمع أفراد المجتمع وحملهم على تبنّي معتقداتها،
أعني بهذه الثلّة ما يسمّى ب(السلفية الجهادية) التي تبنّت افكار الشيخ ابن تيمية في الجهاد، والتي تهدّد أمن مجتمعاتنا اليوم
وتستخفّ بحقوقها الفكرية والإنسانية.
ولو اقتصر الأمر على هذه الفئة المتطرّفة التي تُجاهر
باستخدامها السلاح لفرض قناعاتها على الآخرين لهان الأمر؛ إذ
إن أفعالها الوحشية تُفقدها المصداقية في تقييم عقائد وأفكار
الآخرين، وبالتالي تعزلها وتحجِّم من دورها. ولكن المشكلةَ كلَّ
المشكلة، مع الوجه الآخر (غير المسلَّح) من تلك الفئة، الذي
أُرغم على تجميد مظاهر العنف، واستوعب أن هذه الآلية لا
تخدمه في الوقت الحاضر، فسترَ وجهه القديم لصالح تكتيكٍ
جديدٍ يتّخذ من >الدفاع عن الحقيقة< شعاراً له، ولا ينفكّ يُظهر
حرصه على مصير مخالفيه من بقيّة فرق ومذاهب المسلمين، وهو
لا يتورّع في الوقت ذاته عن إقصاء الفرق الإسلامية الأخرى
المخالفة له، والطعن في عقيدتها وتكفير أتباعها، ووصفهم بأقذع
كلمات قاموس الهجاء قسوةً وضراوةً، مستفيداً في تحقيق ذلك من
الإمكانات الهائلة التي وضعتها التقنية المعاصرة بيد الإنسان
اليوم؛ من إعلام، وبثّ فضائي متلفز، وشبكة معلوماتية عالمية
(الإنترنت).