كتاب عبدالرحمن منيف 2008 بقلم مجموعة مؤلفين..هذا كتاب جماعي توحّد دراساته بين شخص عبد الرحمن منيف ومنجزه الروائي. وقد يبدو عطف المنجز الأدبي على صاحبه أمراً لا لزوم له، طالما أنّ موضوعية الإبداع تتجاوز الشخص وتفيض عليه. بيد أنّ في أحوال منيف ما يقترح منظوراً خاصاً، فقد تصرّف بحياته ولم تتصرّف حياته به، منذ أنّ آثر، مبكراً، أنّ يعتنق الحرية بلا مساومة، وأنّ يسير في الطريق الذي إختاره حتى النهاية. سرد الروائي سير بشر يحلمون بالحريّة، وسردت رواياته سيرة أديب تمرّد وحّد بين الكتابة والحريّة، تعيّنت رواياته، في الحالين، سيرة فكرية ذاتية، تضمّنت الحلم ورثاءه والتمسّك بأحلام لا تموت. عاش منيف حياته مشدوداً إلى صراع المقيّد والطليق، إذ القيد صناعة سلطوية بعيدة الأصول، وإذ ما يجابه القيود تراث لا ينتهي.
أراد الروائي أن يكون صوتاً نجيباً، ينصر أصواتاً نجيبة راحلة، ويستولد أصواتاً تنتمي إلى ما إنتمى إليه. مارس الكتابة – الرسالة، التي أخذ بها دعاة الحق في جميع الأزمنة، ورفعها إلى مستواها الأعلى مجسداً صورة: المثقف الحديث.
دخل منيف إلى عالم الرواية من باب السياسة، ودخل إلى السياسة من باب الثقافة، وأخلص للرواية والسياسة والثقافة حالماً بـ "الحداثة الاجتماعية "، التي تعني حق البشر في وجود إنساني كريم. عاش الروائي الراحل حياته مثقفاً، بالمعنى النبيل، ووضع في خطابه الروائي أسئلة المثقف وهواجسه وحزنه أيضاً, ولهذا يمكن إشتقاق معنى المثقف من خطابه الروائي، بقدر ما يمكن إشتقاق الأخير من معنى المثقف ودلالته. ففي روايات منيف ما يندّد بالإحتكار التقليدي المتوارث للثقافة والسلطة، حيث المتسلّط والسلطة، حيث المتسلّط الموروث يمنع عن خارجه حقوق القراءة والفهم والمساءلة، وحيث كاتب التسلّط هو المثقف الحق وما عداه "آبق" وخارج على القانون. وما شخصيّة "المحملجي" في " مدن الملح "، الشخصية الأكثر شهرة ونذالة وإنحطاطاً في الرواية العربية، إلاّ الصورة الأكمل لمثقف السلطة المستبدة، الذي يقايض وجوده بربح رخيص، ولمعنى السلطة الفاسدة التي تختصر الثقافة إلى مناسبات كاذبة. في روايات منيف شرحٌ وإيضاحٌ وتبيانٌ لدور المثقف في تحليل القائم وتأويله ورفضه، وفي إقتراح بديل إجتماعي – إنساني يدعو إلى المساواة، ويستنكر التقاليد التي تعيّن الحاكم مرجعاً أعلى للبشر، يسأل ولا يُساءل ويغتال الأعراف الطبيعية ويحسن صناعة الإذعان. ومع أنّ "شرق المتوسط"، كما غيرها، حكاية عن السجون الصغيرة والكبيرة فهي، أولاً وأخيراً، حكاية عن المثقفين القائلين ببدائل سياسية، لأصنام " الواحد "، الذي يخلط بين العجز والقوّة، حاجباً عجزه، الذي لا يحجب، بشبكة هائلة من السجون والمزوّرين والمخبرين. أراد منيف أن يكون مثقفاً، بل أن يكون "المثقف"، الذي يدافع عن قيم عادلة أزلية في أزمنة متحوّلة، مرتكناً إلى سلاح بسيط قوامه الكلمات، والمتخيّل المرن والمراوغ، الذي يزيح الأمكنة عن مواقعها ويدعها بلا مسميّات، ويستأنس الزمن بلا خديعة، إذ للماضي مكان الحاضر، وإذ الحاضر القاتم المظلم مجاز لإخفاق بشري مروّع. كان في إستئناسه النزيه الصريح يقوم بما قام به غيره من دعاة الحق، بلغة معيّنة، أو من بناة القول الصحيح، بلغة أخرى، يذهب إلى البشر ويحاورهم ويتعرّف على مشاكلهم، ثم يمضي إلى عزلة مضيئة، حيث العزلة هي الكتابة، والكتابة هي الفصل بين ضمير البشر وقوانين الوحوش، والكتابة الصادقة صرخة متصادية، تتوجه إلى البشر جميعاً.
أمضى منيف حياته في عزلة مثمرة مليئة بالمفارقة، تعلّم الناس وهي تتعلّم منهم، وتبعتد عنهم كي تعود إليهم وتسجّل ما هجسوا به إدوارد سعيد ذات مرّة، ولا يردّ إلى "عارف حكيم"، فالأمر بسيط تُغلّفه البساطة، قوامه نزاهة ذلك الإنسان الناحل الصارم التقاطيع، الذي إن تبّسم كشف عن وجه يتطيّر من الخديعة.
ومن الإبداع الكتابي إلى جمالية المقاومة... إنسان ضاق بعالم ضيّق وإستولد ما شاء من العوالم الواسعة، متكئ على إدارة خالقة، توسّع المكان بزمن نوعي مغاير، وتجعل المكان رحباً بخيال متدفّق أقرب إلى الندرة... غير أنّ ما يميّزعبد الرحمن، كما الصديق الراحل سعد الله منوس وغيره، هو المجالدة المضيئة، التي رأت إلى إنسان موحّد داخل الكتابة وخارجها، وموحّد في القول والممارسة، وفي إختيار الأسئلة والإجابة عنها، فلا الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، كما يقال، ولا منتج الأفكار ينقض إنسان الحياة اليومية.
تقود الكلمات جميعاً إلى "لوعة الغياب"، كما قال عبد الرحمن مرّة، لوعة مجلّلة بالندى، فلم يذهب "أبوعوف" إلى قبره، فقد بقي مع الذين حاورهم، وعلّمهم أنّ على الأحياء أن يخلصوا للأموات، الذين أخلصوا في الدفاع عن القيم العادلة.
وما هذا الكتاب الجماعي إلاّ برهان على حضور منيف وممارسته، التي تصدت في العالم العربي كلّه، وجمعت حول ذكراه مثقفين مصريين ولبنانيين وعراقيين وسوريين وفلسطينيين وأردنيين وعمانيين...، ومثقفين غير عرب تقاطعت طرقهم مع طريق الروائي، الذي إحتشدت داخله إنتماءات وأشواق وأسئلة متنوعة... للعادلين آثارهم، ولأنصار الظلام القبور والمراثي المتكسّبة. لا يزال عبد الرحمن، في ذكرى رحيله الخامسة، موجوداً في الموقع الذي إختاره، يختفي به المهمّشون، الذين إستنهضهم وأعطاهم صوته، وتحتفل به القيم المناهضة للإستبداد والخضوع.
نبذة المؤلف:
إن الديمقراطية ليست مطلباً يسهل تحقيقه، كما أنها بذاتها ليست حلاً كاملاً، وإنما هي المناخ وبداية الوصول إلى الحلول. ومع ذلك علينا أن نعترف بأن لها أعداء كثيرين في الداخل والخارج، لكن أخطر ما يواجهها أن كثيرين ممن ينادون بها غير مقتنعين بما فيه الكفاية، أو أنهم لا يمارسونها، أو يمارسونها بشكل خاطئ، ومستعدون للتساهل، وهذا التساهل أحد أهم الأسباب التي شجعت الحكام على حرمان الجماهير منها. حصل على مراحل، وتحت شعارات براقة، ومن أجل أهداف قيل أنها أهم من الديمقراطية وأخطر، لكن النتيجة أننا حرمنا من هذا الحق دون أن نصل إلى حقوق أخرى، ودون أن نحقق هذه الأهداف.
ولذا فإن المرحلة الآن هي مرحلة الديمقراطية كهدف ومن أجل تحقيق الأهداف الأخرى.
والديمقراطية ليست نموذجاً نقيس عليه، ولا حلاً سحرياً، بل هي في جوهرها العميق ممارسة يومية تطال جميع مناحي الحياة، وهي أسلوب للتفكير والسلوك والتعامل وليست مجرد مظاهر أو أشكالاً مفرغة الروح. بهذا المعنى فإنها ليست شكلاً قانونياً فقط، وليست حالة مؤقتة، أو هبة أو منحة من أحد، وإنما هي حقوق أساسية لا غنى عنها، دائمة ومستمرة، وهي قواعد وتقاليد تعني الجميع وتطبق على الجميع دون تمييز، وهي تعني الأقلية بمقدار ما تعني الأكثرية.