كتاب عرق وبدايات من حرف الياء

تأليف : جبرا إبراهيم جبرا

النوعية : مجموعة قصص

"عرق وبدايات من حرف الياء" مجموعة جبرا إبراهيم جبرا القصصية، وقد كتبها في أمكنة وأجواء مختلفة، في القدس وبغداد وفي لندن وبوسطن، وفي أزمان متفاوتة وهي لا تقوم على الحادث أو الشخص أو الحوار بقدر ما تقوم على الرموز والإيحاءات التي شلحها المؤلف بتفنن وعناية،

هنا وهناك، كما يفعل الشعراء في قصائدهم في طليعة الرموز: المدينة، وعلى العلاقة التي تنشأ بين البطل وبينها. وفي نظرة تحليلية لرمز المدينة عند جبرا إبراهيم جبرا يلمحها القارئ مدينة معينة بالذات، أو هي مدينة لا قرية أو بلدة، كأنما جبرا رومانطيقي جديد همه العودة إلى البداءة والطبيعة فالمدينة عنده رمز وليست واقعاً، وأن أصر قارئ على أن يعرف لها اسماً أو يرى لها مخططاً، فإنما هو كقارئ يصر على أن يعرف أسماء ويرى مخططات للمدينة السماوية ولمدينة الهلاك في "سيادة المسيحي" أو للقلعة في "قلعة" كافكا، أو للأرض في قصيدة ت.س اليوت "الأرض الخراب"، مثلاً، ولكل أن يفسر الرمز كما يشاء، وكما يتيح له المنظار الذي يستعمله مسرح الأحداث في معظم هذه القصص هو المدينة، وفي القليل منها نرافق البطل منها قبل وصوله إليها، ونلمح فيها المبرر الذي يحمله على ارتيادها.

منذ الصبا يعرف البطل أن عليه أن يقوم بتجواله. أن يهجر قريته ويؤم المدينة حين يكبر. أنه لا يعرف لماذا عليه أن يفعل ذلك، لكن جهله لا يزعجه أو هو يدرك أنه صغير بعد، وأن هناك أشياء يتعذر على الصغير فهمها، فليترك ذلك للأيام. وهو في صباه يعيش في فقر ووقع، لكنه أيضاً يعيش في هناء ورضى. هو إذ ذاك في حال البراءة، لكن هذه البراءة لا تدوم، بدأ عالمه يتغلب إلى عالمين متضاربين، عالم الواقع وعالم الحلم، العالم كما هو والعالم كما يشاؤه أن يكون. أنه أخذ بشعر بأن العالم الذي هو فيه ليس العالم الذي يود أن يكون فيه، بدأ يطمح إلى تركه إلى "مكان بعيد"، إلى الذهاب "إلى المدينة" صارت هذه الهجرة موضوع أحلامه، لكن المدينة لم تكن ما أمل فيها أن تكون في سائر قصص جبرا، والبطل فيها أصبح في شبابه، وصف ورموز مستفيضة للمدينة لا كما خالها أولاً بل كما وجدها وقد عاش فيها.

إنها الآن ليس مدينة متروبوليس بل هي مدينة نكروبوليس، ليست أرض عسل ولبن، لكنها أرض جدباء خربة وكأن وصفها صورة أدبية جديدة الأسطورة قديمة، أسطورة الأرض البوار، التي حاقت بها اللعنة فأقحلت بعد خصب، وخبا في أهلها بريق الحياة. وأشخاص القصص لا يسعون إلى افتداء الزمن، بل يعلمون دوماً على قتل الزمن، وليست في المدينة أية علاقات إنسانية بين الفرد، ليست ثمة شركة أو تماس أو اتحاد. هذه القرية الروحية من أبرز مظاهر الأرض البوار، وجبرا يصورها لنا بقوة عن طريق الأحداث البسيطة التي لا تعني كثيراً بحد ذاتها ولا تزيد في سياق القصة أو تنقص لكنها كرموز تبدو ذات أهمية. وعلى البطل في قصص جبرا أن يرفض المدينة بعد أن اختبرها وعاش فيها ليكون بذلك سيد الموقف. هذا الظفر يجيء البطل في خاتمة المطاف، فيرفض المدينة ويهجرها، إذ ذاك، وإذ ذاك فقط ينجو من المدينة الميتة، يعبر الأرض البوار.

شارك الكتاب مع اصدقائك