فنحن سواء عن قصد أو غير قصد نضعهم في مراتب القداسة، ونرفعهم عن سلوكيات البشر، وهم في الحقيقة من نسيج البشر، لهم نزواتهم، ولهم حركتهم كما كل كائن بشري في هذه الحياة، وأعتقد أنه من المفيد أن يتلمس القارئ بعض مفاصل في مراحل مسيرة حياة الرمز، وقد تنفتح أمام رؤاه آفاقاً جديدة تفسّر كيف وصل هذا الإنسان العادي إلى مرتبة الرمز. وبعد أن وصلت إلى هذا الفهم وهذه الحقيقة التي أعتبرها إيجابية، لأن غسان ومهما كانت درجة انتمائي لشخصه وفكره، ومهما كنت منحازاً فهو "رحمه الله" لم يعد ملكاً لأسرته، بل أصبح شخصية عامّة، ورمزاً أدبياً، ومناضلاً صلباً حتى آخر لحظة في حياته، حاكى هموم الناس في أصقاع الشتات، وعبر عن صمودهم وأمنياتهم وتمسكهم بثوابتهم الوطنية والقومية، واستطاع أن يحتل موقعاً متقدماً بين أدباء عصره من خلال نتاجه الفكري الإبداعي والسياسي على حد سواء، ولو أنه في أدبياته لم ينضبط بالتقويمات السياسية التي ينتمي إليها، بل كان ممثلاً لضمير الشعب بامتياز، واستطاع أن يدخل إلى العمق الإنساني للقضية، وأن ينتشر إلى العالمية بعد أن ترجمت الكثير من كتاباته إلى كثير من اللغات الحيّة،.
الآن تتلبسني رهبة أكبر وأنا في جهدي لتقديم غسان من خلال كتاباته الأولى التي لم تنشر، وهي بدايات تفجّر الطاقة الإبداعية عند غسان.
وقفت طويلاً أمام أسئلة محيّرة:
هل من حقي أن أنشر كتابات غسان الأولى بما فيها من بساطة وعفوية ومباشرة وشعارات.؟
هل يمكن أن يتأثر موقع غسان المتقدم عندما نطّلع على بعض بداياته الأدبية.؟
ثم هل من حقي أن أنبش هذه المتروكات التي تجاهلها غسان نفسه ولم يعتبرها بالمستوى القابل للنشر.؟
وأمام هذه الأسئلة كان لا بد أن أضع أجوبة تقنعني أولاً، وتقنع الآخرين المتلقين.
ما دام غسّان خرج من "الأنا" الأسرية الضيّقة، وأصبح شخصية عامّة ورمزاً حيّاً ومنارة يهتدي بنورها الجيل بعد الجيل، أليس من حق الناس أن يطّلعوا على البدايات الأولى لأديب كبير وصل إلى ما وصل إليه غسان.؟
إن نشر ما كتبه غسان في بداياته قد يكون دليلاً للناشئة، ونستطيع من خلال الإطلاع على البدايات أن نتلمّس مسيرة غسان الأدبية وفعل التطوّر الذي هيأه ليحتل الموقع المتقدم.
ثم أعتقد أن الإطلاع الواعي على بدايات غسان قد يؤسس لفهم جديد لإبداع غسان، وقد يفتح أقنية جديدة لدارسي أدب غسان.
وقد يكون في نشر هذه الأدبيات معلومة ومتابعة لتطوّر غسان تصل إلى كل مجتهد ليسلك طريق الدراسة والقراءة والكتابة بجهد ليحقق مرحلة نضوج تؤهّله ليتبوأ المكان اللائق في هرم الإبداع.
وبعد أن وضعت هذه المعايير، قررت أن أدخل هذه التجربة.
وعندما أطلق على هذه المخطوطات "بدايات" فأنا أعني الأمور التالية:
لقد ولد غسان في العام 1936، واستشهد في العام 1972، ما يعني أنه عاش 36 عاماً لو قسمناها إلى مراحل لوجدنا أن الـ 12 سنة الأولى توزّعت بين الطفولة والمدارس الأولى ورحلة اللجوء.
أما الـ 12 سنة التالية فهي مرحلة الدراسة وبناء الشخصية والتأسيس للعمل.
تبقى الـ 12 سنة الأخيرة التي شهدت تفجّر الطاقة الإبداعية عند غسان، وهذا التراث الضخم الذي تركه زاخراً بالقصص والروايات والدراسات والمسرحيات والعمل الصحفي اليومي إلى جانب انتمائه الأيدلوجي لحركة القوميين العرب ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
حاولت في كتابي الأول (غسان كنفاني صفحات كانت مطويّة) أن أخوض في الـ 12 سنة الأولى من عمره، مرحلة الطفولة والصبا، وها أنا ذا أحاول أن أقدّم للأعمال التي بدأ بها غسان بناء نضوجه، وهي بين العام 1951، والعام 1961، أكثرها في دمشق "سورية" حيث بيت الأسرة، والقليل في أوائل عمله وإقامته في الكويت.
ولا أدعي الفضل في ذلك، فكل الفضل لوالدي المحامي محمد فايز كنفاني رحمه الله، الذي كان دقيقا وحريصاً على أرشفة كل قصاصة تخصّ أي واحد من أبنائه.
هي مجموعة من القصص والمقالات والحواريات والتمثيليات والدراسات والمحاولات الشعرية التي لم تنشر، وبعض ما نشر في الصحف في تلك الفترة السابقة جداً، وللأمانة أجد من الواجب أن أوضّح بعض الأمور:
القصص:
هناك قصص كتبها غسان في مطالع الخمسينات من القرن الفائت لم تنشر أبداً.
وهناك قصص أخرى نشرت في صحف قديمة بالفترة نفسها تقريباً لا توجد في أعماله الكاملة المنشورة، وإن وجدت الفكرة مثلاً فهي ما اشتغل عليه غسان حتى وصل إلى قناعة نشرها.
وأما القصص الأخرى فهي منشورة في أعماله الكاملة ولكنني أنشرها هنا ثانية من أصل كتابتها، وقد نلاحظ بعض التغييرات والتحسينات التي أجراها غسان عليها. وقد رأينا أن نضع صور توثيقية من هذه الكتابات وهي بخط يد غسان.
المقالات والدراسات:
لا أعتقد أن المقالات والدراسات التي أنقلها للنشر في هذا الكتاب قد نشرت سابقاً، ولتحقيق الشفافية سأحاول أن أضع مقتطفات مصوّرة من تلك المخطوطات وهي بخط يد الشهيد غسان أيضاً.
الحواريات والتمثيليات:
بعض تلك الحواريات والتمثيليات أذيع من محطة إذاعة دمشق "برنامج الجندي" في تلك الفترة السابقة لكنها لم تنشر ورقياً، والبعض الآخر لم ينشر.
الشعر:
هي محاولات قليلة، لم يتابع غسان كتابة الشعر، لكنني أنشرها فقط للإحاطة بالتوجهات الأدبية الإبداعية عند غسان.
الرسوم:
أكثر اللوحات المنقولة في هذا الكتاب رسمها غسان وهي معروفة تقريباً.
هذه هي الخطوط العريضة للكتاب، وكلي أمل أن أكون على مستوى المسؤولية الأدبية، وأن أوفي شقيقي الأديب الشهيد المناضل غسان كنفاني بعض حقّه عليّ.
والله من وراء القصد
كتاب معارج الإبداع تأليف غسان كنفاني
عندما أصدرت كتابي الأول (غسان كنفاني صفحات كانت مطويّة) تلبستني حالة من الرهبة، أن أكتب عن غسّان شيئاً مختلفاً ويحمل خصوصية الأسرة والمعايشة أمر رأيت فيه نوعاً من المخاطرة المشوبة بالرهبة، وقد قصدت أن أكتب عن غسان الطفل والفتى، عن تلك العلاقات الحميمة بين أخوين شقيقين في أسرة واحدة، تقاسما الثدي والفراش ورحلة اللجوء المرّ، وكانت رهبتي تتمثّل في أمر أعتقد أنه ينسحب على نظرتنا إلى رموزنا بشكل عام،