كتاب مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات بقلم عبد الله بن بيه مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات المقاصد , المعاملات المالية عرض: منتصر حمادة. ما حكم البيوع التي تتم في السوق الإلكترونية بين أناس لا يرون بعضهم؟ وبنقود ليست ذهبية أو فضية أو ورقية؟ بل هي أيضا إلكترونية؟ وما هو مقصد تحريم الربا؟ وكيف نفهم مبادئ الحرية والشفافية في التصرف والتعاقد في الشريعة الإسلامية؟ وهل نحن على استعداد للإسهام في إيجاد نظام مالي جديد لإنقاذ الاقتصاد العالمي؟ وهل البنوك الإسلامية اليوم تمثل
الأنموذج المطلوب؟ وما حكم التضخم الذي تتغير فيه قيمة العملة تغيرا كبيرا، يحدث أحيانا بين عشية وضحاها؟ وما هو حكم الشرع في تعديل ما ترتب بذمة للدائن في حالة التضخم؟ وإذا بطل التداول بعملة كانت رائجة في جميع البلدان، هل لذلك تأثير على العقود التي وقعت بها؟ وكيف نتعامل مع الأوضاع الجديدة التي سوف تسفر عنها الأزمة الاقتصادية الحالية؟ نحسب أن عدد العلماء والفقهاء المعنيون بالرد الفقهي التأصيلي على هذه الأسئلة، قلّ عددهم، لأن المسألة ليست هينة بالمرة، كما أنها ترتبط بتحصيل مسبق لعدة فقهية رصينة من جهة، موازاة مع تحصيل عصري بمستجدات قضايا وملفات اقتصادية، قلّما تطرق إليها العلماء والفقهاء خلال العقود الأخيرة. تأسيسا على هذه الأرضية الاستفسارية، يحق لنا التنويه بصدور الكتاب القيّم الذي حرّره فضيلة الإمام عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، ويحمل عنوان "مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات". (صدر الكتاب عن مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، الطبعة الأولى 2010، ويقع الكتاب في 516 صفحة من الحجم الكبير) حيث أبدع فضيلته في الإجابة على بعض الأسئلة سالفة الذكر، انطلاقا من تأسيس نظري وتأصيل دقيق بدأ به في كتاب متوسط الحجم، عظيم الفائدة، وبليغ الأسلوب، ويعتبر إضافة تجديدية مقاصدية هامة. يُبيّن الكتاب كيف يمكن للمجتهد أن يتخذ من المقاصد الشرعية المتعلقة بالمال منطلقا ملزما لتقرير الأحكام، وذلك وفق قواعد منهجية تربط الأصول المقاصدية بالتقريرات الاجتهادية بيانا بالأخص؛ لكون قضايا المعاملات المالية لا ينبغي أن تقتصر على مجرد جرد للمقاصد وكشف عن علل أحكام معروفة، بل عليه أن يرمي إلى توسيع الأوعية المقصدية لتشمل مجالات أخرى من القضايا المستجدة لاستنباط واستنبات أحكام في تربة المقاصد الخصبة، ولكن ذلك لن يكون متاحاً إلا من خلال تفعيل العلاقة بين المقاصد وقواعد أصول الفقه لضبط عملية الاستنباط وتأمين سلامة نتائج صيرورتها؛ لأنها جاءت وفق مقدمات مسلمات لتكون النتيجة كذلك. جلّي أن القصد من تأليف هذا العمل القيّم، يكمن في إبراز مقاصد معاملات الأموال مما استدعى عند الشروع تقديم كلمة ووضع طليعة؛ أما الكلمة فعن كيفية معالج القضايا المعاصرة من التشخيص والتكييف وانتهاء بإصدار الأحكام. وأما الطليعة فعن الأزمة المالية العالمية، أسبابا ونتائج باختصار، مقارنة بالمنهج الإسلامي فيماي تعلق بعناصر الأزمة، مع "المراهنة" في هذه الطليعة على بيان أهمية موضوع مقاصد المعاملات المالية. واعتبر أحمد زكي يماني، رئيس مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، في تقديمه للعمل، أن فضيلة الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، من علماء هذا العصر المالكية البارزين، وفقهاء المقاصد المجددين، الذين جمعوا بين العلم المستوعب للتراث الفقهي الإسلامي الواسع، والإدراك العميق للواقع، والاستشراف الواعي للمستقبل، وعناية الشيخ بن بيه بفقه مقاصد الشريعة وإبداعه فيه معروف ومشهور، ويظهر جليّا في هذا الكتاب كما ظهر في غيره من مؤلفاته القيمة. ومعلوم أن فقه مقاصد الشريعة يُعتبر من أهم آليات تجديد الفقه وتطويره، إن لم يكن أهمها، خاصة في قضايا البيوع والمعاملات، وهي القضايا التي يدور حولها هذا الكتاب، ذلك أن الفتاوى في هذا المجال تتغير تغيرا معتبرا، بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وتستدعي هذه التغيرات اجتهادات وتجديد، والتجديد الذي يتحدث عنه مقدم العمل في هذا المقام، ليس معناه التبديل، من منطلق أن "الثوابت باقية ملزمة، والخمر والزنا والربا من المحرمات، وبر الوالدين والحكم بالعدل والشورى من الواجبات، وفتح باب الاجتهاد أصبح من الواجبات، خاصة في ظل المتغيرات المعاصرة والأسئلة المهمة التي تطرحها" (حري بنا التذكير أن المؤلف حدّد مقاصد الشرع في الأموال عبر خمسة أمور: رواجها ووضوحها وحفظها وإثباتها والعدل فيها) يرى المؤلف أن معالجة القضايا المعاصرة في الاقتصاد والمعاملات، كالإيجار المنتهي بالتمليك وقضايا النقود الورقية وغيرها، تحتاج إلى جهد من الباحث يتمثل في مرحلتين: تشخيص المسألة المعروضة من حيث الواقع، وهذه المرحلة لا غنى عنها للفقيه، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وبدون هذا التصور والتصوير يمكن أن يكون الحكمُ غير صائب، لأنه لم يصادف محلا. من الأهمية بمكان أن يبذل الاقتصاديون الوضعيون لإيصال كل العناصر التي يتوفرون عليها إلى زملائهم الشرعيين، فإذا تم ذلك فإن مرحلة أخرى تبدأ وهي: مرحلة المعالجة الفقهية لإصدار حكم شرعي، وهي المرحلة فيها صعوبة كبيرة تبدأ بما يمكن أن يكون تحقيقا للمناط. جاء العمل موزعا على "مقدمة حول المال والمالية"، وتمهيد حول "وظيفة وأسباب الملكية"، إضافة إلى خمسة فصول توزعت على العناوين التالية: "تعريف المقاصد"، "مقاصد المعاملات المالية"، "مقاصد منهيات البيوع وميزان درجات النهي"، "نماذج معاصرة للاجتهاد المقاصدي"، ثم الفصل الخامس: "بحوث فقهية في قضايا معاصرة"، وتوزع بدوره على ثمان مسائل، وجاءت كالتالي: الإيجار الذي ينتهي بالتمليك، موقف المؤجر من تصرفات المستأجر غير الجائزة شرعا، المشاركة في شركات أصل نشاطها حلال إلا أنها تتعامل بالحرام، التعامل مع شركات تقوم بأعمال مشروعة وتتعامل مع البنوك بالفوائد، أحكام النقود الورقية وتغيُّر قيمة العملة، تبرئة الذمة في مسألة الربا الملمة، التعويض عن الضرر الناتج عن تأخير الديون المستحقة، حكم الشرع في تعديل ما يترتب بذمة المدين للدائن في حالة التضخم، (وتضمنت هذه المسألة ملاحق: النقود الشرعية وتطورها (من خلال الترحال مع نصوص للمؤرخين والفقهاء)، الأعواض والمعايير الشرعية، الشروط، تطبيق مبدأ وضع الجوائح على حال تغير قيمة النقود محل الدين والالتزامات، وأخيرا، نسبة التضخم المعتبرة في الديون)، وأخيرا، التأمين التعاوني والتأمين التجاري. وواضح أننا إزاء فصول تستحق وقفات استطلاعية نوجزها في النقاط التالية، ما دمنا نتحدث عن قيّم جاء في 516 صفحة، متضمنا ما يفوق 200 مرجعا. ففي البحث الخاص بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك، عالج المؤلف الموضوع من حيث التكييف القانوني لهذا العقد وفقا لمراحل تطوره، قبل أن ينتقل إلى عرض وُجهة النظر الفقهية مرتّبة على الفروض القانونية مبنية على مسائل الشروط عند الفقهاء، ويصل البحث في النهاية إلى تقديم جملة من البدائل التي لعلها إذا حلّت محلّ العقود القانونية في بُنيتها ونيتها الحاضرة، ترجّح جانب الحِلّ. وفيما يتعلق بموقف المؤجر من تصرفات المستأجر غير المشروعة، فنحن إزاء قضية تنزل ببعض ملّاك العمائر والعقارات، حيث يؤجرونها لشخصية طبيعية أو معنوية قد تستغلها استغلالا يخالف مبادئ الشريعة، وقد فصّل البحث في ذلك بين أن يكون المؤجر عالما حين العقد بتلك التصرفات وبين أن يكون جاهلا أو غافلا عن جهة تصرفات المستأجر، وقد بيّن المؤلف خلاصته على اختلاف العلماء في قاعدة سدّ الذرائع بين مالك وأحمد من جهة، والشافعي وأبي حنيفة من جهة أخرى. وبخصوص المشاركة في شركات أصل نشاطها حلال إلا أنها تتعامل بالحرام، فنحن نتحدث عن بحث صُنو الذي بعده ومكمل له ويتعلق بالاشتراك في شركات تتعامل بالربا مع إيضاح الفرق بين الشركة والتعامل، وتأثير هذا الفرق في الحكم الرعي. وفيما يتعلق بالتعامل مع شركات تقوم بأعمال مشروعة وتتعامل مع البنوك بالفوائد، فقد ارتحل هذا البحث مع مقتضيات الحكم الشرعي في التعامل مع شركات تتعامل بالربا، فهو بحث يتعرض للمعاملة مع الشخص الطبيعي أو المعنوي الذي يشوب ماله الربا أو يختلط فيه الحلال بالحرام، ويستعرض البحث أقوال العلماء بين الحرمة والكراهة والجواز، وبعد عرض هذه الأقوال بناء على مجموعة من القواعد الفقهية يستخلص في النهاية القول الراجح. أما البحث الخاص بأحكام النقود الورقية وتغيُّر قيمة العملة، فقد استعرض المؤلف عبره مسألة تغيّر العملات حيث يعرض أقوال العلماء تفريعا وتأصيلا، ليصل القارئ إلى رؤية واضحة يقترح فيها الحل الأمثل من جملة حلول بُنيت فيها الفروع على الأصول. وفيما يخص الزيادة في القروض البنكية، ارتأى المؤلف طرق باب التفصيل في موقع هذه الزيادة من آية الربا كما وردت في القرآن الكريم، وهل هي داخلة في ربا الجاهلية أو صورة أخرى تدخل في ربا الديون، وما هو مستند الإجماع الذي أطلقه العلماء على حرمة هذه الزيادة، هل هو عموم النص أو القياس؟ وهل حجية الإجماع تفترض قيام مستند؟ وهل يوجد فرق بين قرض الاستهلاك وقرض الاستثمار؟ وقد اجتهد المؤلف في الإجابة على مجمل هذه الأسئلة باختصار مع الإشارة إلى أن تحريم ربا النسيئة من محرمات المقاصد التي لا تبيحها الحاجة وإنما تبيحها الضرورات. وعن التعويض عن الضرر الناتج عن تأخير سداد الديون المستحقة، فهو بحث مختصر يوضح فيه المؤلف أنه لا فرق بين الصيغة المقترحة وبين ربا الجاهلية المجمع على تحريمه لا بالذات ولا بالعرض وأن تغيُّر الظروف لا يرقى إلى تغيير الحكم، وأن وسيلة التوثيق عند العقد تشكل ضمانا شرفيا فيه غنى. وأخيرا، وفيما يتعلق بحكم الشرع فيما رتبت بذمة المدين للدائن في حالة التضخم، فقد فصّل المؤلف في هذا البحث القول في نازلة لا تزال محل خلاف وأخذ وردّ بين من يرى تأثير التضخم على ما بذمة المدين سلبا وإيجابا، وبين من يرى بأن ليس للدائن إلا أصل ماله بغض النظر عن انخفاض القيمة، وقد عرَّف المؤلف التضخم لغة واصطلاحا وعرضا لأقوال العلماء في المذاهب الأربعة، مؤصلا الرأي الفقهي مع بيان أسسه بإظهار أن المسألة اجتهادية، وانتهى إلى اعتبار التضخم الجامع دون غيره، معتمدا العرف معيارا والجائحة أصلا للقياس والمصالح المرسلة أساسا آخر عند القدح في الأول مع ذكر جملة من الملاحق. يتذكر المشاركون والمتتبعون لآخر محاضرات فضيلة الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، ونتحدث عن محاضرة ألقاها في أشغال مؤتمر الإقتصاد الإسلامي لدول غرب إفريقيا بالعاصمة السينغالية دكار، وجاءت تحت عنوان: "توازنات الشريعة يمكن أن تسهم في علاج الأزمة المالية العالمية"، أنه اختتم محاضرته بطرح لائحة من الأسئلة الحرجة والرصينة: "هل فقهاؤنا مستعدون لاختراع أدوات الاستنباط لتوسيع أوعية الاستثمار ولإيجاد صياغات كفؤة تستوعب كلما دلت عليه هذه الشريعة المباركة - نصوصا ومقاصد وجزئيات وقواعد- لتعميق الفهم وتوسيع دائرة الفقه، محافظة على الخصوصية والميزة الشرعية، وانفتاحا على الأدوات المعاصرة، والفنيات الاقتصادية والمالية لضمان النجاعة والفعالية". ذلك بحق، هو التحدي اليوم أمام الجميع، ونرى أن العمل الذي بين أيدينا، يندرج ضمن الاجتهادات الفقهية المعاصرة والمجددة، والتي تترجم انخراط عالِم اليوم في مقتضيات الساعة والساحة على حد سواء. جدير بالذكر، أن فضيلة الإمام عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، يشغل منصب رئيس المركز العالمي للتجديد والترشيد، وهو نائب رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وشغل أيضا منصب وزير العدل في موريتانيا سابقا، وعضو المجامع الفقهي، وصدرت له العديد من المؤلفات والأبحاث، نذكر منها على وجه الخصوص: "صناعة الفتوى وفقه القليات"، "أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات"، "حوار عن بعد حول حقوق الإنسان في الإسلام"، " الإرهاب:التشخيص والحلول"، "فتاوى فكرية"، علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه".