رواية تحيا الحياة بقلم فيصل عبدالحسن .. عتبة الراوية كانت من خطبة لجمال الدين الأفغاني،يقول فيها " أمةٌ تطعنُ حاكمها سراً وتعبده جهراً، لا تستحق الحياة" وهذا الاستشهاد ذو علاقة وثيقة بصناعة الطاغية، وهو موضوع الرواية. ويضع الروائي فيصل عبد الحسن النقّاد المتخصِّصين في العتبات في ورطة حقيقية، فهو لم يكتب مقدّمة للرواية، ولكنه كتب فصلاً افتتاحياً يسرد فيه كيفية إخراج مخطوط الرواية من الحدود، وعبور السارد به إلى خارج البلاد، على الرغم من التفتيش الدقيق والمهين والجارح للكرامة الإنسانية الذي يتعرَّض له المواطنون المسافرون في مركز الشرطة الحدودي. وهذا الفصل الروائي هو في صلب موضوع الرواية، فهل يعدّه هؤلاء النقاد الكرام من العتبات أم من النص المركزي للرواية وموضوعها؟ موضوع الرواية: تدور الرواية حول حياة أحد الطغاة في بلد عربي ينتشر فيه الفقر، ويعشش فيه الجهل، وتقيم فيه الأمراض إقامة دائمة منذ قرون. وقد كُتبت الرواية في سياق سياسي واجتماعي عربي اتسم بتسلط الطغاة على الحكم في معظم البلدان العربية عن طريق الانقلابات العسكرية، وتحكّمهم بزمام الأمور مدة ثلاثين أو أربعين عاماً، وتخطيطهم لتوريث الحكم لأبنائهم، على الرغم من كرههم المتأصِّل لشعوبهم المغلوبة على أمرها. فالشعوب المتخلفة الجاهلة الفقيرة هي التي تصنع طغاتها، وتحوِّل حكامها إلى أنصاف آلهة، وتطلق عليهم ألقاباً تتملقهم مثل " الزعيم الأوحد" و" القائد الضرورة" و "الرئيس الملهم"، وتعقد المهرجانات لإلقاء الخطب الرنانة في تمجيده والقصائد العصماء التي تخاطبه، كما خاطب الشاعر ابن هانئ الأندلسي الخليفة الفاطمي: ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكمْ فأنت الواحدُ القهّارُ وهذا يذكّرنا مرة أخرى بالروائي الكولمبي غابريل ماركيز الذي نشر روايته الرائعة " خريف البطريرك" في سياق اجتماعي وسياسي مماثل سنة 1975 حينما كانت أقطار أمريكا اللاتينية في قبضة انقلابيين عسكريين دمويين طغاة. فسخِر منهم في روايته تلك، إذ صوَّر الطاغية كائناً أسطوريا يعيش خالداً مخلّدا إلى الأبد خلافاً لجميع نواميس الطبيعة وقوانين الكون. بيد أنه، على الرغم من مظاهر الجبروت والأبهة، إنسان ضعيف رعديد، تتفاقم عزلته ويتصاعد خوفه. وهكذا فالسياق السياسي والاجتماعي هو الذي يؤثر في الأدب وتوجهاته وموضوعاته في كل فترة تاريخية. ورواية فيصل عبد الحسن " تحيا الحياة " يجب أن توضع في السياق الذي أفرزها. وعلى الرغم من أن الكتابات غير المتخصصة في الصحافة وغيرها تخلط بين مصطلحات " دكتاتور" و " مستبد" و " حاكم شمولي" و " طاغية "، وتعدّها مترادفات، لأنها جميعها تدلّ على حاكم يمسك بيديه جميع السلطات ويتخذ القرارات بنفسه على خلاف الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على المؤسَّسات، فإن أدبيات العلوم السياسية والقانون الدستوري، تفرّق بين هذه المصطلحات الأربعة التي تعبّر عن مفاهيم متباينة. فالدكتاتور، مثلاً، يتسنّم الحكم بناء على قرار من الجمعية الوطنية لأجل إنقاذ البلاد من أزمة تمر بها. والحاكم الشمولي هو صاحب مشروع اجتماعي أو اقتصادي يريد تعميمه في جميع مناحي الحياة في البلاد. والمستبد يعدُّ الشعب الذي يحكمه من رعيته، ويحاول القيام بإصلاحات ليبدو راعياً لمصالح شعبه مدارياً لرعيته. أمّا الطاغية فلا يرعى إلا أهواءه ونزواته. والخاصية الرئيسية للطاغية هي كرهه العميق للشعب واحتقاره، ونهب خيراته، وكتم انفاسه، والتنكيل به، والإمعان في إفقاره وتشريده وإذلاله؛ يساعده في ذلك جهاز استخباراتي قوي، وجماعة منتفعة: " الحصار الاقتصادي بدأ يفعل فعله الحقيقي المرعب على الناس، وفي ذلك المساء المشئوم، ظهر مذيع التلفزيون بوجهه الكئيب... وقرأ نص القرار الرئاسي بقطع صيوانيّ الأذن لكل هارب من الخدمة العسكرية. وتفويض أفراد الحزب الحاكم وأمن الدولة بالتفتيش عن الهاربين، وجعل مكافأة لكل فرد من الحزب، ممن يقبض على هارب، وينفذ فيه القرار الرئاسي مبلغ عشرة آلاف دينار." (تحيا الحياة، ص 68) يحيط الطاغية نفسه بشلة من المنتفعين من كتّاب وشعراء وأدباء ومهرجين، يُكثرون من تنظيم المهرجانات في مديحه والتغني ببطولاته أو شرح أفكاره الواردة في كتابه الأخضر أو الأسود الذي ألّفه أحدهم له، ويحوِّلون حروبه الخاسرة إلى فتوحات وانتصارات باهرة، ويصورون الدم المراق في هذه الحروب باقة زهور حمراء، ونياشين زاهية الألوان تُعلّق على صدر حبيبهم الطاغية. الدكتاتور أو المستبد مثلاً، قد يأمر بإعدام معارضيه الذين يخشى منافستهم له، أما الطاغية فيتفنن في تعذيبهم وقتلهم بأبشع الوسائل. غاية الطاغية الرئيسية هي الاستهانة بالبشر والبطش والتنكيل بهم، فهو رجل سادي النزعة، يتلذَّذ بإلحاق الأذى بالآخرين وإنزال العقوبات القاسية بهم لأدنى شبهة في ولائهم له: " الآلات الجديدة التي نصبت في البهو الواسع للوصول مع الضحايا إلى اعترافات مكتوبة بكل التفصيلات المطلوبة: كلبات العنق، الأحزمة الناقلة، وحبال الربط المطاطية، ... سكاكين فتح الجروح المختلفة في السيقان والأيدي أو مناشير قطع الأصابع...كلبات الأضراس ... مكاوي الطحال ... حقن العضو الذكري للمتهم ... خرّاط المناخير... وهزّ الرئيس رأسه وهو ينظر إلى الأجهزة باهتمام كبير ..." ( تحيا الحياة ، ص 39 ــــ 40) " ظهر للوزراء... لوح زجاج ضخم يحوي خلفه ماء وأسماك قرش، ... وسط تصفيق الحاضرين، أعطى الرئيس إشارته، أُنزلت الأقفاص إلى الماء بوسائل ميكانيكية وداخلها رجال ( من المشكوك في ولائهم للرئيس) ... انفتحت الأقفاص وهجمت أسماك القرش على الضحايا، وانتثر الدم وانتشر بعد ذلك كالضباب الأحمر..." ( تحيا الحياة ص 94 ــــ 95) وهكذا نرى أن سادية الطاغية ومساعديه من الجلادين، تتفتّق عن وسائل وأدوات للتعذيب والتنكيل يعجز عنها حتى الخيال الواسع الوثّاب للكاتب السوداوي فرانز كافكا (1883 ــ 1924) في قصته الشهيرة " في مستوطنة العقاب". فوسيلة التعذيب والقتل التي ابتكرها كافكا بسيطة بدائية بالمقارنة مع آلات طاغيتنا المتطورة ووسائل تنكيله الشيطانية. فقد كانت آلة كافكا مجرد مكينة كبيرة لها أسنان حادة تنشب بالمتهم فتقتله في الحال. بيدَ أن السادية، كما بيّنَ علماء التحليل النفسي، تحمل معها الماسوشية في الوقت نفسه. فعندما يرغب الطاغية في تعذيب الآخرين وتحطيمهم، تنتابه في الآن ذاته، في اللاشعور، الرغبةُ في تدمير نفسه. ولهذا فإن الطغيان قصير العمر إذا ما قورن بالدكتاتورية والاستبداد. فالشعب سرعان ما يطيح بالطاغية. أو كما يقول محمد مهدي الجواهري: " باقٍ، وأعمارُ الطغاة قصارُ". والطاغية يدرك ذلك: " يتمتم ( الرئيس) بصوت مسموع (قبل أن يقتل خال أولاده): ــ ما أقذر عمل الخلفاء والحكام والرؤساء ... عملهم أردأ من عمل الكناسين، وإذا مارسنا السلطة في هذا البلد، لا نستطيع تركها أبداً إلا إذا ساروا بنا إلى اللحد حتف أنوفنا، أو إلى المشنقة قبل اللحد! " " تحيا الحياة ص 159" أسلوب الرواية وبناؤها: قبل كل شيء، ينبغي التنويه بلغة الرواية الفصيحة السليمة الصافية الخالية من التعبيرات العامية الدارجة، في الوقت الذي تزخر فيه كثير من الروايات بالدارج من الكلام. ولقد أسهمت لغة الروائي المطبوعة الراقية في زيادة جمالية التلقي. تنتمي هذه الرواية في أسلوبها وبنائها إلى مدرستين سرديتين هما: الواقعية القذرة والواقعية السحرية. والواقعية القذرة حركة أدبية أمريكية معاصرة يلتقط كتّابها الجوانب المبتذلة الدنيئة الوسخة في الحياة لتدور حولها قصصهم ورواياتهم، مثل الزوج المخدوع، والأم غير المتزوجة، والمشاجرات الزوجية، وسارق السيارات، واللصوص عامة. وظهر المصطلح " الواقعية القذرة" في الولايات المتحدة سنة 1983. ويعدُّ الكتّاب الأمريكان : تشارلس بوكويسكي ( 1920 ـــ 1994)، وتوبياز وولف (1945 ــــ )، وريتشارد فورد ( 1944 ـــ )، في طليعة الأدباء المنتمين إلى هذه الحركة. وقد ترجمنا قصصاً نموذجية لتوبياز وولف وريتشارد فورد في كتابنا " مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة". ويتميز الأسلوب في هذه المدرسة السردية بالاقتصاد في استعمال الكلمات، والسخرية، والوصف الخارجي، وتجنب الحوارات الداخلية، وندرة استعمال الظروف والاستعارات الموسعة والصور المجازية: " مقتطف من مقال عن رواية " تحيا الحياة " للكاتب فيصل عبد الحسن والماقال للناقد البروفسور علي القاسمي نشر في جريدة الزمان الدولية