بل إن عمل سعيد بدا أكثر صعوبة وتعقيداً من سابقيه، ذلك أنه رفع صوته المتمرد في زمن تراجع الإيديولوجيات والأحزاب السياسية وانكسار الحركات الثورية، وربما كان الظرف الذي أصبح سعيد فيه ثورياً في زمن تداعي الثورات، هو الذي أعطى صوته بعداً رسولياً، ودفع به، في لحظات الضيق والأمل إلى أن يساوي بين المثقفين الحقيقيين والأنبياء.
ولكن من أين جاءت ثورية سعيد، إن صح القول، وهو المنحدر من عائلة ميسورة أمّنت له تعليماً عالياً في شروط مريحة؟ وما الذي دعاه، وهو الذي لم يكن يقرأ العربية في طور من حياته، إلى مواجهة الصهيونية؟ وما الأسباب التي أملت على أكاديمي مسيحي أمريكي من أصول عربية أن يتصدى لبتسار الإسلام وتشويه معناه؟ ما الذي أيقظ في سعيد، الذي تربى وتعلم في أوساط تقليدية، الحس برسالة ثقافية تواجه السلطات المختلفة بسلطة الحقيقة، التي لا تنتصر إلا صدفة؟
كان سعيد في دراسة له، نشرت في كتاب جماعي عنوانه «ثقافة ما بعد الحداثة» قد تحدث، بضجر، عن وسط أكاديمي غارق في تفاصيل نقدية مدرسية، صغيرة مبتعداً عن الشأن العام الابتعاد كله، وقريباً من صناعة الزيف الإعلامية، التي تسهم في صناعة الإذعان، على المستوى الأمريكي والعالم في آن.
ومع انتقاله المتصاعد من عالم الأكاديمي إلى وضع المثقف يمكن أن يفسر بسهولة بانفتاحه على العالم العربي بعد هزيمة 1967 وارتباطه اللاحق بالقضية الفلسطينية، فإن الأمر يقوم في سبب أكثر عمقاً عنوانه: سلطوية المعرفة، أي لا موضوعيتها، الذي كرّس له عمله الشهير «الاستشراق».
وسواء قبل الإنسان بكل ما جاء في هذا الكتاب، أو رفض بعضاً منه، فإن فيه ما يتأمل هوية المعرفة الزائفة، التي تنتج أكاديمياً يستخدم المعرفة لغايات غير أخلاقية. طرح سعيد في كتابه السؤال التالي: هل يرتبط إنتاج المعرفة بتاريخ المعرفة، من أجل الوصول إلى حقيقة تظل نسبية على الدوام، أم انه مرتبط بسلطات سياسية، تلوي عنق المعارض من أجل مصالحها، وتؤسس لمنهج مستدام يرى المنفعة ولا يرى الحقيقة؟
ولهذا توقف سعيد أمام المؤسسة الاستشراقية، التي وحدت بين المعرفة وبين أغراض السلطة، وتوقف أكثر أمام المنهج الجامعي الأمريكي، الذي صاغ عقليته وشخصيته، كتب سعيد في مقدمة «الاستشراق»: «يقول غرامشي في «دفاتر السجن»: إن نقطة انطلاق الإعداد النقدي هي وعي المرء لما هو عليه حقاً، مدركاً ذاته كمنتوج للسيرورة التاريخية حتى اللحظة الراهنة، التي تضع فيه آثاراً لا حصر لها، من دون أن تترك جرداً بها.
ويتابع سعيد: «تترك الترجمة الإنجليزية الوحيدة التي في متناولنا عبارة غرامشي على هذه الصورة دونما سبب واضح، في حين أن نص غرامشي بالإيطالية يختتم بالجملة التالية: «ولذلك فإنه من الضروري تماماً أن يصار إلى وضع هذا الجرد منذ البداية»، ومن نواح عدة، فقد كانت دراستي «الاستشراق» محاولة لجرد الآثار التي تركتها عليّ، أنا الذات الشرقية، تلك الثقافة التي كانت سيطرتها عاملاً بالغ القوة في حياة جميع الشرقيين»...
ويمضي د. فيصل دراج في مقالته هذه التي مثلت مدخلاً إلى قراءة ادوارد سعيد في محاولة لاستدراج ما جاء لدى ادوارد سعيد في كتاباته حول المثقف أسمائه، صفاته، مسمياته، علاقته بالسياسة والسلطة. يقلب د. دراج صفحات فكر ادوارد التي بثها في مقالاته لإعطاء صورة لهذا الناقد الأمريكي - الفلسطيني انطلاقا من سؤالين أساسيين، أحدهما يخص معنى المثقف ودلالته، وثانيهما يخص إدوارد سعيد الذي أراد أن يكون مثقفاً في زمن تراجعت فيه وظيفة المثقف تراجعاً كبيراً.
وإلى جانب هذا، فقد شكلت هذه القراءة مدخلاً لهذا الكتاب الذي ضم بالإضافة إلى ذلك مجموعة مختارة لمقالات ودراسات كتبها إدوارد سعيد في أزمنة مختلفة، إلا أن المحور الأساسي الذي شكل مقاربات هذه المجموعة كان حول الإسلام والغرب، وجاءت عناوينها على النحو التالي: الإسلام والغرب، تجربة الاستلاب، انتقال النظريات، تأملات في المنفى، الدور العام للكتاب والمثقفين، صدام المفاهيم، أفكار حول الأسلوب الأخير، التلفيق، الذاكرة والمكان، فرويد وغير الأوروبيين، المحاكاة، تمثيل الواقع في أدب الغرب، ييتس ومقاومته الاستعمار.
كتاب الإسلام والغرب مقالات ودراسات مختارة تأليف إدوارد سعيد
شكل إدوار سعيد امتدادا للمثقف التنويري الذي أنجبه عصر النهضة الأوروبي، لا بمعنى المضمون المعرفي؛ بل بمعنى الوظيفة، التي تقنع المثقف بالتمرد وتملي عليه أن يدعو غيره إلى التمرد أيضاً.