كتاب الجمع والتصنيف لمقاصد الشرع الحنيف

كتاب الجمع والتصنيف لمقاصد الشرع الحنيف

تأليف : أحمد الريسوني

النوعية : العلوم الاسلامية

حفظ تقييم
كتاب الجمع والتصنيف لمقاصد الشرع الحنيف بقلم أحمد الريسوني..مقدمة كتاب: (الجمع والتصنيف لمقاصد الشرع الحنيف) للعلامة الفقيه المقاصدي أحمد الريسوني:

هذا العمل تم إنجازه بطلب من الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، فضيلة شيخنا العلامة محمد الحبيب ابن الخوجة حفظه الله، بغرض أن يَرجع إليه ويستفيد منه الباحثون في (مشروع معلمة القواعد الفقهية).
وهو عمل فريد من نوعه وجديد في بابه؛ يتمثل في التتبع والاستخراج لأقوال ثلة من العلماء في مقاصد الشريعة وحِكمها، وأسرار قواعدها وأحكامها، مستخرجة من أمهات مؤلفاتهم.
وهم السادة الأجلاء، والأئمة الفضلاء (حسب الترتيب الزمني لهم):
-ابن بابويه القمي من خلال كتابه: علل الشرائع،
- أبو حامد الغزالي من خلال كتابه: إحياء علوم الدين،
- أبو بكر بن العربي من خلال كتابه: أحكام القرآن،
- علاء الدين الكاساني من خلال كتابه: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع،
- عز الدين بن عبد السلام من خلال كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام،
- شهاب الدين القرافي من خلال كتابه: الفروق،
- ابن قيم الجوزية من خلال كتابه: أعلام الموقعين عن رب العالمين،
- أبو إسحاق الشاطبي من خلال كتابيه: الموافقات والاعتصام.
وقد تم اختيار هؤلاء العلماء وهذه المؤلفات لاعتبارات علمية، أهمها:
1- المكانة الشخصية لكل واحد من هؤلاء العلماء، بالنظر إلى شهرتهم وتلقيهم بالتقدير والإجلال، إن على صعيد مذاهبهم وطوائفهم، أو على صعيد الأمة وعلمائها عامة، قديما وحديثا.
2- تنوعهم من حيث أعصارُهم وأمصارهم، ومن حيث مذاهبُهم الفقهيةُ والكلامية.
فهم - زمنيا - يمتدون من القرن الرابع الهجري إلى نهاية القرن التاسع. وهي الفترة التي أنتجت أهم المصنفات، وأهم المذاهب والنظريات في كافة العلوم الإسلامية.
وهم – مكانيا - يمتدون من بلاد ما وراء النهرين شرقا إلى الأندلس غربا.
ثم إنهم - مذهبيا - يمثلون مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية المتبعة: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي والجعفري. ومن حيث المذاهب الكلامية، نجد منهم الأشعري، والماتريدي، والسلفي، والإمامي.
3- القيمة الخاصة لهم ولمؤلفاتهم المختارة في موضوعنا (مقاصد الشريعة)، فهؤلاء الأئمة عرفوا بعنايتهم وشدة التفاتهم إلى مقاصد الشريعة وتحريهم لبيانها ومراعاتها في فقههم واجتهادهم. ثم جاءت مؤلفاتهم المختارة باعتبارها المظانَّ الأكثر غنى والأغزر فائدة في هذا المجال.
4- تنوع الكتب نفسها من حيث اختصاصها وانتماؤها العلمي. فهي كتب فيها التفسير، والفقه، والأصول، والفكر الإسلامي العام، والتصوف والتربية، والسياسة الشرعية...الجامع بينها هو ما تم استخراجه وتنسيقه مما يتعلق بمقاصد الشريعة.
أهمية العمل وبداية الطريق
بغض النظر عن الجهد المكثف والمتواصل الذي استغرقه هذا العمل لأزيد من خمسة عشر شهرا، وبغض النظر عن خبرة طويلة سابقة استثمرت لفائدته، فإن أهمية هذا العمل تتمثل أساسا في قيمة الموضوع نفسه، وفي أهمية المشروع الذي يندرج – أو يمكن أن يندرج- فيه.
فالموضوع هو مقاصد الشريعة، من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل.
مقاصد الشريعة التي لا يعد الفقيه فقيها حقا حتى يكون مدركا لها وبصيرا بها. ولا يكون المجتهد مجتهدا إلا إذا كان خبيرا بها ملتفتا إليها في ورده وصدره.
مقاصد الشريعة التي لا يمكن إجراء نصوص الشرع إجراء سديدا سليما إلا في ضوئها وبهدي منها، ولا يمكن إجراء أدلة أخرى أصلا إلا بناء على كلياتها وجزئياتها، كدليل المصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والاستحسان، بل إن القياس نفسه لا يستقيم ولا يتسدد إلا بمراعاة المقاصد، كما سيأتي في نصوص العلماء في مواضعها من هذا التصنيف.
وفي عصرنا هذا مثلت مقاصد الشريعة هما علميا كبيرا ومشروعا بحثيا طموحا، تشوف إلى إنجازه ورؤيته عدد من العلماء والباحثين في علوم الشريعة، المتطلعين إلى تجديدها وتفعيلها. ولعل خير من نمثل به من هؤلاء هو العالم الرائد محمد الطاهر ابن عاشور الذي يقول: "فنحن إذا أردنا أن ندون أصلا قطعية للتفقه في الدين، حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه: علم مقاصد الشريعة... ".
وإذا كان الشيخ ابن عاشور قد ركز في كلمته هذه على علم أصول الفقه، وعلى الطابع اللغوي والمنهج الصوري اللذين خيما على أكثر مباحثه ومسائله واصطلاحاته، فإن تراثنا الفقهي أيضا قد امتدت إليه النزعة الظاهرية والصورية في تفريع الأحكام وبنائها وصياغتها، وذلك على حساب الالتفات إلى العلل الحقيقية والمقاصد الجوهرية، وعلى حساب مراعاة المصالح والمفاسد. وقد تطرق الشيخ ابن عاشور إلى أسباب تخلف الفقه الإسلامي، فعد منها "إهمال النظر في مقاصد الشريعة" وقال: "كان إهمال المقاصد سببا في جمود كبير للفقهاء ومعولا لنقض أحكام نافعة... "، وكذلك قال الشيخ الشهيد محمد بن عبد الكبير الكتاني: "إن من أسباب انحطاط الملة ذكـرَ الأحكام مجردة عن أسرارها" .
فتراثنا الفقهي بحاجة إلى كثير من التمحيص والتعيير بمعيار النظر المقاصدي الذي هو روح الفقه وقلبه النابض. ونحن لأجل ذلك محتاجون إلى نخل كثير من كتبنا الفقهية وغير الفقهية، لاستخلاص الفقه المقاصدي وإحياء النظر المقاصدي، وتجلية المنهج المقاصدي.
وإن الثروة العظيمة، المجموعة في هذا التصنيف، من كلام علمائنا في مقاصد الشريعة، تنظيرا وتطبيقا، إجمالا وتفصيلا، تنهيجا وتخريجا، لكفيلة بإعادة الاعتبار، والتجلية والإظهار، للفقه المقاصدي والنظر المقاصدي، لمن تأملها وأطال عشرتها.
ولكنها بالنسبة للمشروع الكبير مجرد بداية ومجرد انطلاقة، المشروع الذي أرجو له أن يتسع ويمتد ويجد من يضطلع به، ليوجِد لنا "موسوعة مقاصد الشريعة"، وأن تصحبها وتتبعها دراسات واسعة في تراثنا المقاصدي والقضايا المقاصدية، وأن يتوج المشروع بظهور "علم مقاصد الشريعة".
وأسأل الله تعالى أن يقيض له من خدام دينه وشريعته من يسيرون فيه، ويسيرون به إلى غايته.
طريقة العمل
تمثل عملي في هذا التصنيف في الخطوات والأعمال الآتية:
1- قمت بالقراءة الشاملة والمتأنية، وأحيانا المتكررة، للكتب التسعة، المشتملة على أكثر من ثلاثين جزءا (في سبعة وعشرين مجلدا). وبعد التحديد والحصر للنصوص المتعلقة بمقاصد الشريعة، إجمالا وتفصيلا، تم استخراج هذه النصوص، مذيلة بذكر مصادرها، مع الجزء والصفحة الخاصين بكل نص.
2- استخراج النصوص، واعتماد ما يعتمد منها، خضع باستمرار للنظر والتقدير والاجتهاد. فهناك نصوص قد يكون اندراجها وإدراجها مما لا غبار عليه ولا تردد فيه. وهناك أخرى قد يطول النظر والتردد في مدى اندراجها، وفي قيمتها ومدى فائدتها، وفي إمكان الاستغناء عنها لقيام غيرها مقامها، وخاصة إذا كانت لنفس القائل...
وعلى العموم، فقد كنت أعتمد ما له دخل صريح في موضوعنا، أو ما له ارتباط مباشر به، من كلام عن مقاصد الشريعة ومحاسنها وكلياتها، أو عن أهمية المقاصد والحاجة إلى معرفتها أو طرق معرفتها...أو عن المقاصد والحكم والعلل الجزئية للأحكام والنصوص الشرعية، أو عن الاجتهادات الفقهية المبنية على مقاصد الشريعة والمراعية لها...
أما المعاني المتكررة فإني أعتمدها جميعا إذا كانت لقائلين مختلفين، لأن لذلك دلالته وفائدته، وإذا كانت لقائل واحد، فإني أقتصر على واحد منها أو اثنين، إلا إذا كان في النصوص المكررة فوائد إضافية.
ومن بين الكتب المعتمدة، أسقطت جزءا كاملا من أحدها، وهو الجزء المخصص للمقاصد (كتاب المقاصد) من "الموافقات" للشاطبي. فهذا لم أنقل منه شيئا، لأنه كله في الموضوع. فلا معنى لنقل بعضه دون بعض، كما لا معنى لنقله كله وهو متوافر ومعلوم لدى الجميع.
وشيء من هذا يقال عن "قواعد الأحكام" لابن عبد السلام، فهو في معظمه يدخل في موضوعنا، وتتكرر فيه المعاني بدرجة كبيرة. فلذلك أخذت منه وأبقيت. وكلا الكتابين مشهور ومتداول ميسور.
3- بعد تحديد النصوص واستخراجها وتصنيفها واعتماد ما اعتمد منها، قمت بوضع العناوين المناسبة لها، المعبرة عن مضمونها. والإشكال الذي اعترضني في وضع هذه العناوين (أو التراجم) هو أن بعض النصوص يتضمن أكثر من معنى ويحتمل أكثر من عنوان. ولا يكون أي منها معبرا تمام التعبير عن مضامينه. وهنا لا يكون بد من الترجيح والتغليب؛ إما بأصل المسألة، أو بأهم ما في النص، أو بالسياق الذي اخترت وضع النص فيه.
وبالمقابل، فإن بعض النصوص، اثنين أو ثلاثة في الغالب، تصلح أن يجمعها عنوان واحد، لوحدة مضمونها أو دلالاتها، فأجعلها كذلك.
وأهمية هذه العناوين التي وضعتها تتمثل في كونها تسهل على القارئ البحث والمراجعة، وتسهل عليه الإدراك السريع الموجز لمضمون النص. ولكن فائدتها الكبرى في نظري تكمن في كون أكثرها وضع في صيغة قواعد عامة، بحيث يمكن اعتبارها هي نفسها "قواعد مقاصدية"، وتكون النصوص التي تحتها بمثابة توضيح وتطبيق عليها.
وهناك عناوين قليلة جدا أخذتها من أصولها، وهي تعرف من صيغها، مثل: "فصل في..." أو "الفرق السادس عشر...".
4- بعد هذه العملية، وبناء عليها، قمت بتصنيف النصوص وتبويبها وترتيبها: تصنيفها من حيث كونها تدخل في المقاصد والقضايا المقاصدية العامة، أو تدخل في المقاصد الجزئية للأحكام. ثم تصنيفها بحسب موضوعها داخل القسم العام، أو داخل قسم الجزئيات، أو ضمن مقاصد المكلفين. ثم ترتيبها في بابها العام، أو في بابها الفقهي، كما هو مبين في الفهرس.
فجاء هذا التصنيف مقسما ثلاثة أقسام كبرى هي:
- قسم المقاصد العامة والقضايا المقاصدية العامة،
- قسم المقاصد الجزئية،
- قسم مقاصد المكلفين.
ثم تحت هذه الأقسام ما يشبه الأبواب والفصول والمسائل...
5- وضع بعض التعليقات والهوامش الخفيفة، إذا رأيت ذلك ضروريا. وهي تعليقات قليلة جدا، لأن عملي هذا ليس دراسة أو شرحا أو تحقيقا، وإنما هو "جمع وتصنيف". فلم أر أن أقحم نفسي بكثرة التعليق والمناقشة والدراسة.
غير أنه إذا لم يكن هذا العمل دراسة في المقاصد، فإنه يقدم المادة التي تصلح لعشرات الدراسات المقاصدية، وهي مادة ميسرة بتصنيفها وتوثيقها وعناوينها.
وبقيت ملاحظات أختم بها هذا التقديم:
1- بعض الأقوال المدرجة في هذا الجمع قد يكون لي – أو لغيري – فيها نظر، ولا تكون مسلمة لقائلها. ولكن إيرادها ضروري ومفيد على كل حال. وهي آراء تحترم ويحترم أصحابها ولو لم نتفق معهم فيها.
2- مقاصد الشريعة، الواردة والمتحدث عنها في هذه النصوص، ليست سوى قليل من كثير. فليست كل مقاصد الشريعة قد ذكرت وتُحدث عنها، ولا هؤلاء العلماء قد كتبوا كل ما عندهم عن مقاصد الشريعة، ولا كل ما كتبوه قد جاء في كتبهم هذه.
فهذا العمل إذاً، يقدم جزءا يسيرا وأنموذجا صغيرا من مقاصد الشريعة ومن التراث المقاصدي لعلمائنا.
3- غير أن هذا الأنموذج، على محدوديته، غني ومعبر بتنوعه الذي سبق ذكره. فهو دال ومعبر عن حقيقة كبيرة وعظيمة الشأن، وهي أن علماءنا – من جميع المذاهب المعتبرة – مجمعون على تعليل الشريعة جملة وتفصيلا. فحتى حين يختلفون في التعليل وتحديد مقصد الحكم، فإنهم يكونون بذلك متفقين على قابليته للتعليل، ومتفقين على مبدأ التعليل والتقصيد لأحكام الشرع.
وقد جرت تعليلاتهم وكثرت في جميع أبواب الشريعة، من عبادات وعادات ومعاملات وجنايات...، فدل ذلك على عقيدة راسخة عند جماهير علماء الأمة: هي أن دين الله وشريعته وأحكامه، كل ذلك معلل معقول المعاني، وأن مبناه على الحكم البالغة والمصالح المعتبرة، التي تتوقف عليها حياة العباد وسعادتهم وتزكيتهم، وأن التعبد لله تعالى ليس شيئا مخالفا ولا نقيضا للتعليل والمعقولية ومصالح المكلفين. فالتعبد حق لله نعم، ولكن التعبد عمل صالح نافع، واستقامة وتزكية وترقية، أي فهو عبارة عن مَصالح. وكذلك رعاية المصالح المعتبرة في الشرع، هي شكل من أشكال التعبد والتقرب إلى الله تعالى.
وأحسب أن نصوص العلماء الآتية في هذا "الجمع والتصنيف لمقاصد الشرع الحنيف" ستشفي العليل، وتروي الغليل، وتقيم الحجة والدليل، على أصالة التعليل، في كل مناحي الشريعة. وأن عدم التعليل، أو القول بعدم معقولية المعنى في بعض الأحكام الشرعية، إنما هو استثناء يراد به في الغالب التعبير عن التوقف لعدم اتضاح الحكمة والمقصد عند قائله.
وفي هذا يقول الشيخ الكتاني: "وقول أهل الفروع: هذا تعبدي، هو عجز منهم عن بيان الحكمة والسر. والشرع كله مكشوف لأهل العلم بالله، ليس عندهم شيء غير معقول المعنى..." .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات