كتاب النهضة اليابانية المعاصرة: الدروس المستفادة عربياً بقلم مسعود ضاهر..لماذا نجحت اليابان في بناء حداثة حقيقية تعترف بها جميع دول العالم، في حين أن تلك المجتمعات لم تشهد حداثة راسخة، بل مجرد اقتباس قاد إلى مزيد من التبعية والتغريب؟ فالحداثة إذاً نتاج نضج في البنى الداخلية أولاً. من هنا كانت انطلاقة اليابان الناجحة على رغم ما أصابها من نكسة في أواسط القرن العشرين. أما التجارب الأخرى، وتحديداً العربية منها، فلم تولد سوى الفشل لأن البنى الداخلية فيها لم تشهد حركة تحديث سليمة. وهناك الكثير من الدروس والعبر التي يمكن للعرب أن يتعلموها من تجربتي التحديث الأولى والثانية في اليابان.
ومنذ السبعينات بدأت الدراسات الغربية تتحدث عن "المعجزة الاقتصادية اليابانية". وفي عقدي الثمانينيات والتسعينيات نبه بعض قادة الدول الغربية إلى مخاطر النمو الاقتصادي الكبير لأن اليابان قد تغزو العالم حالياً واقتصادياً في مطلع القرن الحادي والعشرين. هكذا استعادت اليابان دورها الفاعل في النظام العالمي الجديد المعروف بعصر العولمة، فحققت بذلك نقلة نوعية خلال عقود قليلة مع أنها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الموارد الطبيعية.
وفي المقابل، هناك دول تمتلك الكثير من تلك الموارد، وتحديداً الدول العربية، ما زالت تعيش أزمات متلاحقة في جميع المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والثقافية وغيرها. وذلك يطرح العديد من الأسئلة المنهجية التي تعود إلى سؤال محوري طرح معكوساً في مطلع القرن العشرين: "لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟"، ليطرح بشكل آخر في مطلع القرن العشرين: "لماذا نجح اليابانيون وفشل العرب؟". إن الإجابة العلمية عن هذا السؤال الأساسي تتطلب قراءة هذه الدراسة بجزأيها الأول والثاني؛ لأن سر نجاح النهضة اليابانية يكمن في التفاصيل وليس فقط في العناوين العريضة.
فقد تمّ تناول وبالتفصيل الجوانب الأساسية للنهضة اليابانية الأولى من القرن التاسع عشر في كتاب الباحث الأول: "النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج". لذا يستكمل الكتاب الحالي عناصر الاستمرارية والتغيير في النهضة اليابانية المعاصرة الكثير من نقاط البحث التي طرحت في الكتاب الأول. إلا أن المقارنة بين النهضتين اليابانية والعربية باتت غير ممكنة في مختلف المجالات بسبب التطور العاصف لليابان من جهة، والتخلف العربي من جهة أخرى. يرى الكثيرون من الباحثين العرب فائدة أكيدة في استخلاص الدروس والعبر من مسيرة النهضة اليابانية التي يمكن أن تساعد العرب على تصويب مسار نهضتهم المتعثرة منذ القرن التاسع عشر. فتجربة التحديث اليابانية تندرج في إطار تجارب التحديث الآسيوية التي قادت إلى ولادة ظاهرة النمور الآسيوية.
إن دراسة معمقة لمسار النهضة اليابانية في مختلف مراحلها تظهر بالملموس مدى فائدة دروس تجارب التحديث الآسيوية لإطلاق نهضة عربية جديدة. فالعرب واليابانيون قد استوردوا التكنولوجيا الغربية بكثافة في الفترة التاريخية السابقة. ولا ينكر اليابانيون هذه الظاهرة يل يعترفون بتقدم الغرب عليهم في تلك المرحلة بشكل لا لبس فيه. وهم نقلوا عن الغرب، ومستحدثون في نقل أحدث أشكال التكنولوجيا التي هم بحاجة إليها دون عقد أو مركب نقص. وليس من شك في أنهم تساووا في عملة الاقتباس هذه من جميع الشعوب التي استوردت التكنولوجيا وتدربت على العلوم العصرية الغربية المتطورة، ومنها الشعوب العربية.
لكن اليابان هي الدولة الآسيوية الوحيدة التي استطاعت، وبسرعة قياسية أن تستوعب تلك التكنولوجيا ومن ثم تطورها لتتجاوز الغرب في كثير من السلع الإلكترونية، وصناعة الإنسان الآلي (Robot)، والبصريات، وأجهزة الإعلام، والأجهزة الطبية وغيرها. كما أن اليابان المنزوعة السلاح، والمحرومة من التسلح، والتي تعيش تحت المظلة العسكرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، نجحت بإطلاق تجربة تحديث ثانية أكثر أهمية من الأولى.
على ضوء ذلك يمكن القول بأن اليابان تقدم تجربتها المعاصرة في التحديث كنموذج مليء بالدروس والعبر لمن يريد الاستفادة منه. والباحث في دراسته هذه يحاول استشفاف هذه الدروس. وكان المنهج المطبق في هذه الدراسة متعدد الأبعاد، ويقوم على الجمع ما بين تعدد مناهج البحث العلمي في دراسة ظاهرة التحديث عبر مختلف تجلياتها في حقول المعرفة الإنسانية كالتاريخ، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والانتروبولوجيا، وتفاعل الثقافات والحضارات، وغيرها.
وفي إطار بحث عن عناصر الاستمرارية والتغيير في تجربة التحديث اليابانية في القرن العشرين كان لا بد من اختيار مقولات علمية لكبار المفكرين الذين كتبوا في التاريخ الشمولي، أو الكوني، أو العالمي، أو الحضاري. فمسألة التحديث مقولة نظرية ذات أبعاد كونية منذ نشأتها، وهي تزداد وضوحاً في عصر العولمة والنظام العالمي الجديد. كما أن البحث العلمي الرصين في هذا المجال يتطلب تحليل ظاهرة التحديث على المدى الزمني الطويل، وموجبات الانتقال من تحولات تحديث العسكر إلى تحديث المجتمع في عصر العولمة ووقف التهديد بحروف عالمية وحتى إقليمية.
وقد عالجت هذه الدراسة، بشيء من التفصيل، بعض مشكلات الصراع في مجتمع ياباني تحتل فيه الطبقة الوسطى نسبة عالية من عدد السكان. ويبقى أمل الباحث كبيراً في أن تكون دراسته هذه مساهمة علمية تفتح الطريق أمام دراسات حول تجربة النهضة اليابانية ومدى استفادة العرب منها لإطلاق مشروع نهضوي عربي جديد.