كتاب بيروت مدينة العالم - الجزء 3

كتاب بيروت مدينة العالم - الجزء 3

تأليف : ربيع جابر

النوعية : الفكر والثقافة العامة

حفظ تقييم
كتاب بيروت مدينة العالم - الجزء 3 بقلم ربيع جابر..بعد سنوات طويلة، وعندما إشتدت المجاعة وإنتشر التيفوس، تذكر عبد الغني البارودي زمن الكوليرا. بناته تراكضن حوله يجمعن الثياب ويحزمن الحقائب للخروج من بيروت، وهو رجع بالذاكرة إلى زمن أبعد من الكوليرا ورأى ساحة البرج قبل " فتنة الستين ". رأى نفسه ولداً لم يبلغ العاشرة يركض خارجاً من خان أبيه، يقطع أشجار التوت، يخترق سوق الفشخة. يدفع باب الحارة المرصع بالحدائق. ويركض على " الطريق البيضاء" إلى أمه عائشة.

 قالت له: " عندما يئذن المؤذن الظهر تعال وكل قطايف". " حارة البارودي " بسورها المستطيل وبوابة السنديان المرصعة بالحديد هُدمت على دفعات بين 1915 و 1919. أعمال الهدم لتوسيع دروب بيروت القديمة بدأها العثمانيون في مطلع الحرب العالمية الأولى وأنهاها الإنكليز والفرنسيون بعد إنتهاء الحرب بهزيمة الأتراك وخروجهم من بلادنا. أعمال الهدم أزالت من الوجود البيوت الأربعة التي بناها عبد الجواد أحمد البارودي. أزالت حارة القرميد التي رفعها في نهاية " طريق عبد الجواد " ( طريق عبد الملك ) إبنه الثاني الحاج عبد الرحيم أبو حسين البارودي. مات عبد الرحيم أبو حسين البارودي. مات عبد الرحيم البارودي ممدداً على سريره محاطاً بالعائلة الكبيرة سنة 1890. حفيداته الحائمات حول السرير نظرن إلى الجد بشعره الأبيض ووجهه المربع إمتلأت عيونهن بالبكاء. مات قبل أن يصفّر القطار الحديدي على شط بيروت منطلقاً من محطة المرفأ المجاورة. مات فورث أبناء عبد الغني وعبد الفتاح أملاكه وأعماله. عبد الفتاح الملقب بالدمياطي لن يعيش طويلاً. عبد الغني البارودي أحاطته السماء بتسع بنات جميلات ذاع صيتهن حتى جاوز الإسكندرية. صلّى أن يُرزق إبنً ذكراً يحفظ السلالة فلا تنقرض العائلة. أُعطيَ تسعة بنات ولم يُعطَ ذكراً. عبد الغني البارودي المولود "سنة حلب" (1850) سيغرق في بحر بيروت المالح قبل بلوغه السبعين، وبموته تنقرض سلالة عبد الجواد أحمد البارودي صاحب الذراع الواحدة. لكن هذه الميتة الحزينة في جوف المياه مازالت بعيدة. لم نبلغ الحرب العالمية الأولى بعد. لم نرَ الوالي التركي ينقب بمعول فضي أول حائط في بيروت القديمة. لم نرّ حارة البارودي تتساقط. ذات يوم تقع هذه البيوت.لم نبلغ ذلك اليوم بعد. نحن في زمن قديم. لم نصل إلى " فتنة الستين " ( حرب 1860). لم نرَ الجبل يحترق. لم نرَ نصارى دمشق ينزحون إلى بيروت. لم نرَ الهواء الأصفر. هذا خريف 1859. وهذه أم زهرة (سهيلة النابلسي البارودي) قاعدة على عتبة بيتها الملساء، تحت القنطرة البيضاء الحجر، تعجن عجيناً وتنظر إلى دجاجة حمراء تتقافز على طريق الكلس. عجينة كبيرة. لا تعجن لنفسها ولإبنتها زهرة وأولاد إبنتها زهرة فقط. تعجن للمطعم على المرفأ. ومرات تعجن للخان-خان العائلة. " خان التوتة "، خان إبن المرحوم زوجها خان الحاج عبد الرحيم. تنزل بثقل ذراعها البض الأبيض السمين في وعاء العجين، ترفع العجين على العجين وتضغط ، والعجين يخرج من بين أصابعها ويدها تغوص في العجين. رائحة العجين تملأ وجهها الحارة اليوم. الحارة اليوم ملآنه رائحة قرفة وجوزة الطيب. رائحة السكر والرزيفيلي على النار. سعدية الحص، زوجة المرحوم عبد الجواد الرابعة، تكفلت بالمغلي. العادة أن تطبخ هي – أم زهرة - المغلي. لكن سعدية الحص – أم هند أصرت هذه المرة. هي أصرت وأم حسين المجتهدة - أتعبها العمل الطويل – قالت " طيب" وأم زهرة كفت عن الكلام وقالت " كما تقول أم حسين، البنت بنتها ". يجذبك الروائي منذ سطوره الأولى إلى ذاك الزمن القديم الجميل لتغرق فيه، في عالم بيروت القديمة، ماشياً في أسواقها البزركان، سوق الفشخة، سوق العطارين. متتبعاً أثر الحاج عبد الرحيم الذي يرد على تحيات تجار سوق الفشخة وهو يمر بهم يومياً في ذلك الوقت الذي يضبطون فيه مواعيد صلاتهم على مواعيد ظهوره في السوق، فيردوا أبواب حوانيهم موصين جيرانهم بالبضاعة المتروكة خارج الأبواب مسرعين وراءه إلى " سوق العطارين "، حيث هناك بدت الزحمة شديدة. فالجنود العثمانيون يصلون هناك. هكذا يفتتح الروائي حكاية بيروت القديمة بذاك المشهد الناطق صورة وصوتاً. وتتالى الأحداث وتتابع المشاهد مقدمة للقارئ نصاً تاريخياً إجتماعياً إقتصادياً ضمن إطار روائي تُحرك عباراته خيال القارئ فيعيش تلك الحقبة التاريخية بأحداثها وبمناخاتها وبكل تفاصيلها من خلال أسلوب سردي رائع.