تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال، واتّسع للدّول فيها النّطاق والمجال، وعمّروا الأرض حتّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزّوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق. وإنّ فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها، وسطّروها في صفحات الدّفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفّلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الرّوايات المضعفة لفّقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممّن بعدهم واتّبعوها، وأدّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتّحقيق قليل، وطرف التّنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتّقليد عريق في الآدميّين وسليل، والتّطفّل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل، والحقّ لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النّظر شيطانه، والنّاقل إنّما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصّحيح إذا تمقّل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل. هذا وقد دوّن النّاس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدّول في العالم وسطّروا، والّذين ذهبوا بفضل الشّهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخّرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطّبريّ وابن الكلبيّ ومحمّد بن عمر الواقديّ وسيف بن عمر الأسديّ وغيرهم من المشاهير، المتميّزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعوديّ والواقديّ من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات. ومشهور بين الحفظة الثّقات، إلّا أنّ الكافّة اختصّتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التّصنيف واتّباع آثارهم، والنّاقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم. فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الرّوايات والآثار. ثمّ إنّ أكثر التّواريخ لهؤلاء عامّة المناهج والمسالك، لعموم الدّولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك. وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملّة من الدّول والأمم، والأمر العمم. كالمسعوديّ ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التّقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشّأو البعيد، فقيّد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على تاريخ دولته ومصره، كما فعل أبو حيّان مؤرّخ الأندلس والدّولة الأمويّة بها وابن الرّفيق مؤرّخ إفريقية والدّولة الّتي كانت بالقيروان. ثمّ لم يأت من بعد هؤلاء إلّا مقلّد، وبليد الطّبع والعقل وبليد، ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عمّا أحالته الأيّام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون الأخبار عن الدّول، وحكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجرّدت عن موادّها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها، إنّما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحقّقت فصولها، يكرّرون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتّباعا لمن عني من المتقدّمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال النّاشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها، ثمّ إذا تعرّضوا لذكر الدّولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرّضون لبدايتها، ولا يذكرون السّبب الّذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علّة الوقوف عند غايتها، فيبقى النّاظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدّول ومراتبها، مفتّشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كلّه في مقدّمة الكتاب. ثمّ جاء آخرون بإفراط الاختصار، وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار، مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيّامهم بحروف الغبار، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل، وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعدّ لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرّخين والعوائد. ولمّا طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبّهت عين القريحة من سنة الغفلة والنّوم. وسمت التّصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السّوم، فأنشأت في التّاريخ كتابا. ...
كتاب تاريخ ابن خلدون 2 تأليف ابن خلدون
فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدّول، والسّوابق من القرون الأول،