وإعزاز٬ لأنهم كانوا الأذكى والأرشد والأقوى!
من الذى منحهم هذه الخصائص وهى سجايا لم تكن فيهم معروفة؟ إنه الإسلام وحده٬ لقد أقبلوا عليه وأسلموا زمامهم له فجعلهم أئمة فى الأرض.. كانوا ينتمون إليه وحده٬ ويستمدون منه وحده٬ ويغالون به مغالاة مطلقة! قد يجتهدون فيخطئون! وقد ينطلقون فيتيهون! وتلك طبيعة البشر٬ ولكنهم تعلموا من نبيهم هذه الحكم “سددوا وقاربوا” “استقيموا ولن تحصوا” فكانت حصيلتهم الإنسانية بعد الخطأ والصواب والشرود والاستقامة أربى من غيرهم وأثقل فى موازينهم.. وليس الإسلام طلقة فارغة تحدث دويآ ولا تصيب هدفا٬ إنه نور فى الفكر وكمال فى النفس ونظافة فى الجسم وصلاح فى العمل ونظام يرفض الفوضى ونشاط يحارب الكسل وحياة موارة فى كل ميدان. تدبر قوله تعالى: “أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها”.
كان مسلمو الأمس عكس مسلمى اليوم يبعثرون في طريقهم الأزهار والآمال٬ وتلتحق بهم الشعوب الأخرى لتتعلم وتستفيد.. كانت أمتنا عنوانا ضخما على حقيقة كبيرة٬ حقيقة اجتماعية وسياسية تعنى الحضارة الأجدى والثقافة الأوسع.. وكان جهادها يعنى أن العالم يأخذ بيد الجاهل٬ وأن المتقدم يأخذ بيد المتخفف.. ومن روح القرآن ومن الشرر المنقدح مع احتكاكه بالعقول٬ ومن رونق الفطرة السارى في تعاليمه٬ قام العالم الإسلامى الكبير الذى وصفناه بأنه العالم الأول٬ وظل يقود الإنسانية دهرا.. ثم تراكمت الأخطاء والأهواء٬ وشرعت القافلة المندفعة تخلد إلى الراحة والعجز ٬ وآل المسلمون إلى ما نعلم!! وكان من الممكن أن تداوى العلل العارضة٬ ويستأنف المتوقفون سيرهم الراشد٬ لكن ذلك يستحيل أن يتم فى غيبة أولى النهى.. العودة الطبيعية أساسها أن يتذكر الناس وأن ينتظم الفوضوى وأن يقتدر العاجز وأن يهتدى الحائر.. والجهاد المنشود بذل الوسع فى إنعاش إمة وقعت فى غيبوبة طويلة.. وفاتها الكثير فى ميادين السلام والقتال على سواء.. إنه بذل قد يتطلب من الصمت أكثر مما يتطلب من الضجيج...
بيد أننا نسمع صيحات جهاد آخر٬ جهاد أعمى لا يعرف علل أمتنا فى القديم والحديث٬ جهاد يفرق ولا يجمع٬ جهاد يسرع بالجماهير إلى الفتن٬ وأسرع الناس إلى الفتنة٬ أقلهم حياء من الفرار.. أعجبنى وصف سلفنا الأول بأنهم مزرعة خصبة مثمرة٬ والزرع يبدأ خامات رخوة متناثرة! ثم ينمو ويتكاثر ويتضام بعضه إلى بعض! ثم تشتد أعواده ويستوى على سوقه! “كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع”. والمهم عندى في هذا التشبيه أن الزرع يحتاج إلى عناية وسقاية وحراسة! وأنه لا ينضج ولا يؤتى أكله إلا بعد يقظة وجهد! كذلك الأمم لا تنمو مواهبها وتكتمل قواها وتقدر على أداء رسالتها إلا بعد تربية بصيرة وتدريب ذكى وصبر على المشوار الشاق. لقد تلقى نبينا الوحى. وهو تكريم إلهي صادف مكانه “الله أعلم حيث يجعل رسالته”. لكن هذا التلقى صحبه عمل آخر له وزنه الضخم...
كتاب جهاد الدعوة - محمد الغزالي
عندما كان المسلمون العالم الأول بلغة عصرنا كانت شمائلهم الروحية والاجتماعية تبوئهم هذه المكانة دون افتعال أو ادعاء٬ وكان سائر الخلق يرمقهم بمهابة
نحن نعمل على تصفية المحتوى من أجل
توفير الكتب بشكل أكثر قانونية ودقة لذلك هذا الكتاب غير متوفر حاليا حفاظا على حقوق
المؤلف ودار النشر.