كتاب شذرات العشرين من تأليف عبد الرحمن امنيصير .. هَذا البَوحُ الَّذي أَنثُرُهُ بَينَ يَدَيكَ كَالدُّرِّ المَنثورِ، هوَ خُلاصَةُ مَشاعِرَ تَخَمَّرَت في قَلبي وَعَقلي خِلالَ العَقدِ الثّاني مِن رَحلَتي في هَذِهِ الحَياةِ. إِنَّها لَتَجرِبَةٌ فَريدَةٌ، كَفَريدَةِ العِقدِ، تَجمَعُ بَينَ حَرارَةِ الشَّبابِ وَحِكمَةِ التَّجارِبِ.
وَقَد أَبَيتُ، وَحَقِّ السَّماءِ وَالأَرضِ، إِلّا أَن أُوَثِّقَ هَذِهِ المَشاعِرَ بِقَلَمي، كَما يُوَثِّقُ النَّقّاشُ نَقشَهُ عَلى الصَّخرِ. فَالكِتابَةُ، يا صاحِبي، هيَ الجِسرُ الَّذي يَعبُرُ بِنا مِن ضِفافِ الحاضِرِ إِلى شَواطِئِ الخُلودِ.
وَإِنّي لَعَلى يَقينٍ، كَيَقينِ الفارِسِ بِسَيفِهِ، أَنَّكَ سَتَجِدُ نَفسَكَ بَينَ هَذِهِ الأَسطُرِ، كَما يَجِدُ الظَّمآنُ واحَةً في صَحراءَ قاحِلَةٍ. سَتَتَغَلغَلُ هَذِهِ الخَواطِرُ في قَلبِكَ، كَما يَتَغَلغَلُ النَّدى في أَوراقِ الزَّهرِ عِندَ الفَجرِ.
وَلَعَلَّكَ، في لَحظَةٍ مِن لَحَظاتِ التَّأَمُّلِ، سَتَظُنُّ - وَالظَّنُّ أَحياناً يُغني عَنِ اليَقينِ - أَنَّني أَتَحَدَّثُ عَنكَ أَنتَ، كَأَنَّما نَظَرتُ في مِرآةِ رُوحِكَ وَسَبَرتُ أَغوارَ قَلبِكَ.
فَهَذِهِ الكَلِماتُ، يا رَفيقَ الدَّربِ، لَيسَت مُجَرَّدَ حُروفٍ تُخَطُّ عَلى وَرَقٍ، بَل هيَ نَبَضاتُ قَلبٍ حَيٍّ، وَزَفَراتُ رُوحٍ مُتَأَلِّمَةٍ، وَهَمَساتُ نَفسٍ حائِرَةٍ. إِنَّها صَدى لِصَرخاتٍ صامِتَةٍ، وَتَرجَمَةٌ لِدُموعٍ لَم تُذرَف، وَتَجسيدٌ لِأَحلامٍ لَم تَتَحَقَّق بَعد.
في هَذِهِ السُّطورِ، سَتَجِدُ حَماسَةَ الشَّبابِ المُتَّقِدَةِ كَالنّارِ في الهَشيمِ، وَسَتَلمَسُ خَيبَةَ الآمالِ الَّتي تُشبِهُ مَرارَةَ الحَنظَلِ. سَتَشهَدُ صِراعَ الذّاتِ مَعَ نَفسِها، كَصِراعِ الفارِسِ مَعَ ظِلِّهِ. وَسَتَرى كَيفَ تَتَصارَعُ الأَحلامُ مَعَ الواقِعِ، كَتَصارُعِ المَوجِ مَعَ الصَّخرِ.
هُنا، بَينَ ثَنايا هَذِهِ الكَلِماتِ، سَتَجِدُ الحُبَّ بِكُلِّ تَجَلِّياتِهِ: عَذباً كَماءِ السَّلسَبيلِ، وَمُرّاً كَالعَلقَمِ. سَتَرى الصَّداقَةَ في أَسمى صُوَرِها، وَالخِيانَةَ في أَبشَعِ أَشكالِها. سَتَلمَسُ الطُّموحَ الَّذي يُحَلِّقُ كَالنَّسرِ في الأَعالي، وَالإِحباطَ الَّذي يَزحَفُ كَالأَفعى في الوِديانِ.
وَفي كُلِّ كَلِمَةٍ، في كُلِّ حَرفٍ، سَتَجِدُ جُزءاً مِن رُوحي، وَشَظِيَّةً مِن قَلبي. فَهَذِهِ الخَواطِرُ لَيسَت مُجَرَّدَ كَلِماتٍ عابِرَةٍ، بَل هيَ شَهاداتٌ حَيَّةٌ عَلى رِحلَةٍ في دُروبِ الحَياةِ، مَليئَةٍ بِالمَطَبّاتِ وَالمَنعَطَفاتِ.