كتاب ضباب الامكنة بقلم زهير الجزائري..أردت في هذا الكتاب أن أثبت بالكلمات واقعا هاربا، ومن خلال الكلمات أعطي هذا الواقع معنى ما. المكان كان هاجسي ووسيلتي، لكنه يهرب مني حين أغيب عنه إو أعود إليه. بين ذاكرة الصور وذاكرة الكلمات لم تأتني هذه الأمكنة وحكاياتها وأنا مستلق على قفاي، ولا هي اخترقتني وأنا أسير في منفاي ساهياً عنها. لكي أتذكرها وأدرك جوهرها الخفي ذهبت أنا إليها، وبالأصح غرزت رأسي فيها ووجدت أن الأمكنة ليست وجودا شعريا ساكنا وحسب، هي في جدل مع الزمن ومع ساكنيها. التقاطع والتوازي بين الزمان التاريخي والزمان الآني، بين المتذكر والمتخيل.. هذا ما يعطي للزمان والمكان الذي يحتضنه لحما ودما. هل يمكن للتأريخ أن يخرج من التجريد ويصبح عيانيا أقرب للرواية؟
ما يعطي المعنى للأمكنة في هذا الكتاب هو ما فيها من رموز وذكريات، إنجذابات، واتصالات. أحببت وأنا أكتب عن الأمكنة أن تكون حاضرة أمامي لذلك عدت إليها ماشيا لوحدي وأحيانا من دون رفقة وفي جو الخطر لأفرغ حواسي فيها ولها. أردت أن أمشي الهوينى مع الأفعال اليومية العادية على إيقاع الناس وهم يتجولون في شوارع (الكرادة) أو (البتاويين) أو في مولات (زيونة) أو بين باعة الخردة الجالسين في يوم جمعة شتائي مشمس في (الميدان). تابعت أفعال البيت والشارع التي تشكل رتابة واستمرارية الأفعال العادية، كما أردت أن أمسك في ذاكرتي الأحداث الكبيرة التي غيرت التأريخ الذي عشته مثل سقوط الصنم في (ساحة الفردوس) الانفجار في(الكرادة) والتظاهرات في (ساحة التحرير).. أرى المشهد في اتساعة وأنزل لأدقق في تفاصيله ورموزه. وخلافاً للرؤية الوجودية في توصيف الآخر ب «الجحيم» وجدت الثراء في علاقات الفرد بالناس الأخرين في المكان الذي يجمعهم. كل فرد بذاته إنما هو نقطة تقاطع لعدد من العلاقات التي تتداخل عبر الأفراد وتقوم فيهم وتتجاوز حياتهم.