كتاب لعبة مفترق الطرق بقلم إسماعيل غزالي..في هذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه 10 قصص قصيرة مستوقفة ذات نزعة تجريبيّة حادّة، يصهر غزالي تقنيّات فنون مختلفة في جوهرها، فهناك الشّعر الّذي له حظوة كبيرة في نثره المستند إلى قصديّة واضحة: تنثير الشّعر أو شعرنة النّثر. وهناك الاشتغال التّقنيّ الرّصين الّذي يمهره باختراعات خاصّة منها: تقنيّة هندسة المثلثات وتقنيّة زوبعة الماء وتقنيّة مرايا السّيّارة الثّلاث وتقنيّة التّشفير السّيميولوجيّ وتقنيّة الأفعى الّتي تعض على ذيلها...
إلى جانب التّقليد المسرحي القديم- أقصد ما هو قريب من تقنيّة الكورال اليونانيّ والّتي نلقاها في عدد من قصص هذه المجموعة. لا يلجأ غزالي هنا إلى (اللصق) أو (الدغم)، بل تطويع التقنية للنص وكامل مشيّداته. أما المنحى وموقع المراقبة لدى غزالي فنكتشفهما سريعا: تعرية (خرافات الحياة) التي ينجح في مسكها ساخنة، منتفضة كما السمكة التي تقاوم الهواء بعد أن أبعدت عن مائها. يراوح بين التعرية القاسية والتجاوب العميق مع كل مآزق الانسان وأحوال وجوده في دوائر طباشيرية آخذة بالصغر. في هذه القصص وغيرها أيضا، يمارس غزالي حسّية مفرطة عند التعامل مع الداخل و الخارج . إنه يبتعد كثيرا عن الإيهام الذهني موّظفا طاقاته وذاك الزخم المدهش، في صنع / تسجيل أحداث - ولايهم إن كانت كبيرة أو صغيرة - منتزعة من هذه الدوامة أوتلك في الحياة التي يعاملها غزالي كـ (ظاهرة) معقدة التركيب تنحدر عناصرها من مختلف فضاءات الواقع وليس المباشر وحده. هناك في ما بعد الحداثة من يرى أن العمل الأدبي لا يحاكي الواقع بل هو عمل للمخيلة، أوهيمنة للإصطفائية eclecticism: المزج المتعمد للأساليب والشعريات. لكن غزالي يأخذ بأقانيم أخرى لما بعد الحداثة هذه: الهيبننغ الأدبي، الذاتويات، بل اللهو وتلك الفكاهة السوداء.
يشق غزالي في أدغال الإنسان مسالكه الخاصة أو على حد تعبير مصطفى الحسناوي يعبر هو الأرض / الحياة / الكتابة شأن مسّاح مسكون بالهندسات السرّية للأجساد، الرغبات ، الغرائز ، اللغات والإختلافات. انتبه الحسناوي أيضا الى العصب الأساس لكتابة اسماعيل غزالي أي الممارسة المولهة باللغة. وقد أضيف هنا قول الشاعر العراقي الجواهري حين تفاخر، وعن حق، بأن الشعر أطوع من بنانه. هكذا الحال مع غزالي الذي يبهرنا في كل مرة بمثل هذا الترويض، وهو مذهل عندي، للعربية مما يذكرني بنيكولو باغانيني وهيمنته الشيطانية على الكمان بل أبعد من ذلك، ولن أجازف إذا وسمته بباخ السرد الجديد، فما يقوم به إسماعيل هو إكتشاف متواصل وحفر دائب لآبار إرتوازية جديدة في هذه اللغة. يمكن إضافة ما سجله وجدي الأهدل في شهادة سابقة: كالنسر المحلق في الأعالي، يمتلك إسماعيل غزالي تحكما صارما بعناصر القصة الزمانية والمكانية، وبناء الشخصيات، وتقنية المفارقة والعصف باللغة وتحويل مفرداتها إلى تروس مسنونة، تدير فتنة قصصه التي لاتقاوم .
لكل هذا وغيره لا بدّ من أن تصبح مجموعة (لعبة مفترق الطرق) حدثًا فنيًّا مهمًّا في مسيرة القصّة العربيّة".