كتاب مراجعات في الثقافة العربية

تأليف : عبد السلام المسدي

النوعية : تعلم اللغة العربية

كتاب مراجعات في الثقافة العربية بقلم عبد السلام المسدي..يلمّ الأكاديمي التونسي عبد السلام المسدّي في كتابه هذا مراجعات منطلقها أن الثقافة هي معرفة يصحبها الوعي، والمعرفة علمٌ، هناك من يقف به عند نتائجه، وهناك من يتساءل عن السبل التي أفضت إلى استنباط النتائج، لكن الثقافة أيضًا جمعٌ بين العلم والفن، وتبقى اللغة الجامع الأكبر بين الأطراف كلها لأنها مركز دوائر يتولد بعضها من بعض. في هذا الكتاب (400 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) تأملات موزّعة على تسعة فصول محاورها الثقافة في مفهومها الشامل المقومات الحضارية كلها التي تؤسس عليها حياة المجتمع الإنساني ونهضته،

وهو ما يمكن اختزاله في معادلتين: معادلة الفرد والجماعة، ومعادلة الفكر والسياسة، وتتشكل بينهما مسؤولية المثقف التي أدار المؤلف بعضها على المسألة اللغوية التي ما فتئت في الثقافة العربية تمسي أم القضايا بلا منازع، وبعضها الآخر على خصائص الطاقة الإبداعية من حيث هي الفن القولي، باعتبار أن الأدب يتوّج مفهوم الثقافة في الحضارات.


وعي وانتماء

في الفصل الأول، تجليات الوعي الثقافي، يتكلم المسدي على "شيء ما" في الثقافة العربية جعل التمييز بين الذات والصفة أمرًا صعبًا جدًا، "فلا يقبلون منك أن تقول لهم: إني - بصفتي الشخصية لا بصفتي الوظيفية - أرى هذا الرأي، أو أن تقول لأحد جاءك يطلب المؤازرة: إني بصفتي الشخصية أتعاطف جدًا مع قضيتك، لكني بصفتي الوظيفية لا أرى لك حقًا يفضل حق الآخرين فيها".

بحسبه، من النوافل التي يزكو بها الوعي الثقافي التمرُّس بالتمييز بين ما يُعلم وما يُقال، "ففي ميراثنا حِكمٌ اختزنتها الذاكرة الجمعية بعد استلالها من الشعر، وفيه أمثال سائرة وفدت علينا من التاريخ الاجتماعي وحملتها إلينا مدونات تروي حوادثها بالتفصيل المتناهي، لكن فيه أقوال تكفلت بحفظها الشفاه في نوع من الاسترسال".

يسأل الباحث في الفصل الثاني، ثقافة الانتماء، إن كان من الحصافة أن ننعت الثقافة بأنها عربية كما لو أننا حددنا لها جنسيتها بالمعنى الذي تحمله بطاقات الهوية وجوازات الأسفار. برأيه، يصير هذا السؤال الاستفهامي إنكاريًا، "حين يبادر به الباحث اللغوي وهو يعتزم التوسل بالمنهج العلمي بجميع فضائله وإكراهاته، ولا سيما الالتزام بالموضوع بما يستوجب نكران الذات وإلغاء نوازعها".

برأيه، اللغة تحضن الثقافة، "وكثيرٌ يظنون أن الثقافة تحضن اللغة، إذا انسجمت الثقافة واللغة تواءم الفكر والتاريخ، وإذا تنافر مورد العلم ومنهل اللسان فإما أن يتمرد الفكر فيأبق، وإما أن ينتفض التاريخ فيجفو بقسوته ويهجر بإجحافه".


سلطة وسياسة

في الفصل الثالث، سلطة المعرفة، يرى المسدي المثقف العربي محاصرًا مأزومًا وأزمته غائرة، "يكفيك دليلًا أن أكثر المثقفين جرأة وأشدهم حصافة لن يقوى على مواجهة المعادلة اليومية الحية: لأي المشهدين سترفع يدك؛ للحرية مع الفوضى أم للأمن مع القهر؟ وليس الأمن أمن الجسد والمسكن والمعاش، إنما هو أمن النفوس الذي به راحة البال وسكينة القلب وطمأنينة الإحساس". ووفقًا له، لئن كان الإدراك سلاحًا بيد الإنسان على الكون فإنه ينقلب إلى سلاح بيد الكون على الإنسان، "وحيث إنه قد احتجبت من الوجود عن إدراك الإنسان حقائق جمة فإنه في الغالب من أمره وفي المتواتر من أزمانه يعي اللحظة التعبيرية: يخاطب الآخرين ويخاطبه الآخرون".

يختم الفصل قائلًا: "الإنسان كلما غابت عنه اللحظة التعبيرية حسًا وتحقيقًا، أو اعتبارًا وتقديرًا، تغافل عن الحقيقة الكبرى، وهي أن نشاط الفهم والاستيعاب وما يتلوهما من وعي بالمعنى لا يتوقف بتوقف نشاط اللغة. تلك هي اللحظة السيميائية: لحظة الوقوف على العلامات واستنباط الدلالات وامتلاك القرائن، والارتياض بآلة الإدراك من وراء اللغة. هي لحظة تحويل اللغة نفسها إلى قرينة بين القرائن".

في الفصل الرابع، في السياسة المدنية، يجد الباحث أن الأدق هو الحديث عن الثقافات البشرية، لا الثقافة الإنسانية، "وحينئذٍ، يُمسي المفهوم ذاته مُذعنًا للثنائيات التقابلية التي تحْكم مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ أعني ثنائيات الخاص والعام، الفردي والكلي، النوعي والكمي، المتحول والثابت، المحسوس والمجرد، وكذلك التحليل والتجريد".

بحسبه، كان الاجتهاد قبل حوادث الربيع العربي الملجأ الآمن لاستقرار الوئام بين السياستين المدنية والشرعية، وكان السؤال: هل نرضخ التاريخ إلى النص أم نطوّع القياس وفقًا لإملاءات التاريخ؟ وعندما انتفض بعض العرب، أمسى كل شيء في السياسة "لا يتحدد إلا بمسافته من الدين في تقاذف قصيّ بين الاحتضان المذهبي والرفض الأيديولوجي، وبات الخطاب حول السياسة والدين لا يُصاغ إلا من خلال إحدى الدائرتين: إما دائرة الدين وإما دائرة السياسة، وغدا كالمتعذر أن يُصاغ خطابٌ ويُصغى إليه من خارج الدائرتين بمرجعية فكرية خالصة".


لغة وقول

في الفصل الخامس، في اللغة وعلم الخطاب، يقول المسدي إن الثقافات تلوذ باللغة "لتتخذها رمزًا للهوية الحضارية عالي الدلالة، ولم يكن في سعة الضمير العربي المتيقظ - بعد أن انكفأ على وعيه الكليم بفعل انهيارات القيم اللغوية في غياب الإرادة السياسية الناجزة جماعيًا - إلا أن يتشبث بالجامع المشترك الأكبر في مفهوم الأمة وهو اللغة، ثم جعل مقومات الأرض والتاريخ والمعتقد ركائز تعزز العماد المركزي". ورسم العرب ذلك في الخطة الشاملة للثقافة العربية التي أجمعوا عليها تحت مظلة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، حين قرروا في عام 1982 وُجُوب العمل على تعميم استعمال اللغة العربية في التعليم ووسائل الإعلام والثقافة، باعتبار أن اللغة مستودع الهُوية والأصالة.

يرى الباحث في الفصل السادس، ثقافة الفن القولي، أن سلطة الإعلام الفوري زعزعت الأركان التقليدية التي يقوم عليها التواصل باللغة، "ولن تنأى عن رياح التغيير منظومة الفن الذي قوامه اللغة، فلقد تبدلت آليات التخاطب الإنساني حتى بلغت باللغة حدودًا قصوى أصبح فيها فعل الإدلاء بالخطاب هو بحد ذاته الحدث والواقعة وعليه يُبنى السلوك الإجرائي الذي يفعل فعله في مجرى التاريخ. وكان من قدر الفن القولي أن جيء إلى أخص خصائصه وهي الصورة الشعرية، فتم الاستحواذ عليها، وما من خطاب سياسي في المشهد الكوني الجديد إلا وهو متوسل بأدوات الصياغة الفنية للكلام، حتى إننا أصبحنا على عتبات بلاغة جديدة".


بحوث وأعلام

في الفصل السابع، الجاحظ ومعركة الإنصاف، يبحث المسدي في الجاحظ الذي يتبوأ منزلة مزدوجة في تاريخ الثقافة العربية: منزلة تاريخية ومنزلة حضارية وثائقية؛ "إذ ما فتئت كتبُهُ تمدّ الدارسين المعاصرين بمعين من الاستقراءات والتحليلات والاستنباطات قد يعسر علينا اليوم إدراجها ضمن مسالك الاختصاص في المعرفة البشرية بحسب متصوراتنا الذهنية المعاصرة". ففي مؤلفاته مادة لمن يؤرخ للفرق الدينية والمذاهب الفلسفية والتيارات الأيديولوجية، ومادة تخص الباحث في خصائص التفكير العربي منذ ازدهار حضارته العباسية، ومادة غزيرة لمُؤرخي الأدب والنقد وسائر العلوم اللسانية والجمالية، هذا ما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار الجاحظ رائد المدرسة الإنسانية.

يتناول المسدي في الفصل الثامن، التوحيدي بين العقل واللغة، أبا حيان التوحيدي بالبحث والتمحيص، فهو شخصية صراعية بسلوكه، وخلاقة بحديثه عن نفسه، وإشكالية ببوحه وإفاضته. يقول إن سيرة التوحيدي نص يُقرأ، "لكنه نص سيميائي قبل أن يكون نصًا لغويًا، هي نص مفرداته الوقائعُ وقرائنه شهادات الآخرين عليه، ودواله بعض ما أفاض به هو نفسه عن نفسه وما أفاضت به نفسه عن نفوس الآخرين من حوله. وكل ترجمة لسيرة أبي حيان تأتينا بها المصادر الأمهات فإنما هي نص لغوي لا يفيد أن نقرأه إلا بعدسات المجهر السيميائي حيث للدوال مدلولات، وللمدلولات مدلولات أخرُ هي من الثاوي وراء النص ويُستنبط مما وراء اللغة لإجلاء المسكوت عنه".

أما في الفصل التاسع والأخير، ابن خلدون وقوانين التاريخ، فيقول إن "مقدمة" ابن خلدون جسمت فعلًا المنظومة الإبيستمية في تاريخ الحضارة العربية، "إذ كانت جامعة لشتات الرؤى الفرعية، ومستوعبة لمقولات الفكر النقدي مع غزارة تأليفية هي وليدة القدرة على التجريد والطاقة على الاستقطاب المعرفي الشامل".

يضيف المسدي: "فإذا بابن خلدون من حيث ينظم المعارف ويتحسس نواميسها الخفية وينقد مناهجها ويفحص ثمارها، بل من حيث يستكنه أصول الإدراك اليقيني عمومًا، يبتكر علمًا جديدًا فيضع أسسه لا بالاتفاق أو التضمين وإنما بالوعي الصريح والتبصر المحكم".

 

شارك الكتاب مع اصدقائك