ليست الطفولة بالنسبة للفنان مجرد مرحلة من مراحل العمر، تثير الذكريات والحنين كما هي لمعظم الناس، إنها تصبح للفنان معيناً يغرف منه وجزءاً من موضوعات العالم التي يغرق فيها وقد تصبح في مرحلة متأخرة أسلوباً في العمل، وغالباً ما يحصل ذلك مع تقدمه الفنان بالعمر، أي بعد النضوج
وبعد أن يكون امتحن احتمالات كثيرة، وصولاً إلى روح الأشياء، وبنفس المقدار تلعب البيئة، الحيز الجغرافي و العلاقات الانسانية، دوراً مماثلاً إذ تعتبر الحاضنة التي تفتح ضمنها المدارك والحواس، وتأخذ الأشكال والألوان والروائح نسقاً وعلاقة مما حولها، بحيث تصبح في النهاية جزءاً من تكون الفنان، والطفولة تندمج بالبيئة، تتفاعل معها، ويتم ذلك على مهل، دون تصد، وباستمرار، لتتحول في النهاية إلى عنصر من عناصرها، وأحد مظاهر تجلياتها، والبيئة بشتى عناصرها، تتغلغل في الطفولة وتؤثر فيها، وتعطيها طريقة في النظر إلى الأشياء والتعامل معها، وكثيراً ما تتبدى في تعبيرات فنية، أيا كانت وسيلة التعبير، بحيث يمكن اكتشاف علاقتها بالطفولة ودونما خطأ. ومروان قصاب باشي يمثل هذه القاعدة أصدق تمثيل، فهو برغم سنيّه الستين يزداد طفولة، أما بيئته الشامية بحاراتها القديمة، بيوتها العربية وبغوطتها وأشجارها وظلالها، بقاسيون الذي يربض على كتفها حامياً وحارثاً ونذيراً هذه البيئة، بمفرداتها الكثيرة، يحملها مروان أينما ذهب، ويستخرج بين فترة وأخرى، بحرص بالغ، شيئاً من كنوزها ليفاجئ نفسه وليفاجئ الآخرين بالاكتشاف. بهذه العبارات، يستهل عبد الرحمن منيف صفحات من سيرة مروان قصاب باشي، لتغدو هذه الصفحات لوحات فنية قوامها الكلمة المبدعة، واللوحة المتألقة، والتقدم في انعكاساتها الفنية اقتراب من عالم مروان باقتراب أيضاً من عالم عبد الرحمن منيف الروائي الذي يستحيل على هذه الصفحات حوار لصديق يفتح من خلاله نوافذ طفولة وشباب مروان قصاب باشي والتي كادت تلك أن تصبح دوارساً على بساتين الماضي أهمل في حياته الكثير من الإشارات، أو أتلف الزيان الكثير منها سوى بعض الملامح لتلك الطفولة ولذاك الشباب الذي يظهر لمروان في الأفق مع بعض لحظات السعادة العابرة، هذه الرحلة في هذا الكتاب غدت لقاء بين مبدعين تألقت بحروف وكلمات عبد الرحمن منيف، وتوّجت بلوحات فنان احتضنت إبداعاته متاحف وقاعات كبرى في مختلف أنحاء العالم. ليكون الفنان المبدع الذي امتلك حضوراً عالمياً كبيراً.