إثرَ دَفْن السيدة فاتن في مقبرة " الجناح الأخضر "، تهتُ في المدينة الغاصّة بجموع غفيرة رافعة الأعلام السوداء، مُرَددة بأصوات غاضبة:الله أكبر الله أكبر الله أكبر ... في الصف الأمامي لتلك الجموع، رأيت عمر وقد ازدادت لحيته طولا، ووجهه شحوبا، وسحنته عبوسا وتجهّما ... أصبت بإحباط واعتراني خواء لم أعرف لهما مثيلا مُذْ فررتُ من بيت جدي ...
مررت بـ " الوكالة " فوجدتها مُغْلقة ... والعَطّار العجوز القريب منها أخبرني أن مختار يرقدُ في مستشفى سوسة بعد إصابته بنوبة قلبية خطيرة ... عدتّ إلى قلب المدينة لأجد عند " باب تونس " جموعا أخرى أشد غضبا وهيجانا من تلك التي شاهدتها بعد دَفْن السيدة فاتن. وكانت تلك الجموع تُدمْدمُ مُطالبة بغلق محلّ البغاء، ورجْم نسائه الفاسدات الفاسقات. من خلف الباب الأزرق الوسخ، تتعالى صيحات نساء فزعات، يستنجدن، ويتوسّلن، راجيات الرحمة والغفران ... غير أن تلك الجموع لم تلبث أن حطمت الباب لتقتحم المحل مُلوّحة بالفؤوس والهراوات الغليظة ... استبدّ بي الرعب، فابتعدت بخطوات مُتعثرة لأجد نفسي في الخلاء ولا شيء غير الصمت، ووحشة السهول العارية المحيطة بمدينة " قاف " ...