رواية خير الله الجبل

تأليف : علاء فرغلي

النوعية : روايات

رواية خير الله الجبل تأليف علاء فرغلي .. يا قلة الصبر! تقولها ولا تصطبر حتى يهده التعب فيعود ولود الكلب ضحكوا عليه وتركوه للجناجِم وحده في طاحونة المفارق وطاروا! وبعد أن استقرّ طرف عصاه المدببُّ ينخُر في عيونها وأنوفها وما شاف من فتحاتها محاولا اكتشاف ما بداخلها بجرأة وجسارة، أفلتتْ كفُّه الصغيرة العصا، وتسحّب فوق أطراف أصابعه كاتما أنفاسه حتى تجاوز مدخل الطاحونة، ولم تمنحه شجاعتُه قدرةً للانحناء والتقاط العصا الملعونة التي انحشرت في فم إحدى الجماجم المبعثرة فوق التراب. بالكاد قفز كالملدوغ بعيدا بعيدا ليقطع، كاملَ المسافة من طاحونة المفارق إلى الشارع البحري في نفس واحد، مقاوما رغبته في إلقاء نظرة خاطفة للوراء ليتأكد له ما إذا كان ثمة ما يطارده أم لا. هكذا حكى "عليّ" لصالحين، أخته، وهي تُحمّمه وتدعك بين فخذيه بليفة النخيل وصابونة البوتاس كما أوصتها أمها قبل أن ينخ بيت المعصرة فوقها كالجمل.. وتموت. واعتادت صالحين معه، دون بقية إخوته، أن تمرّر حكاياته عبر أذنيها كما تمرّ رغاوي الصابون الساخنة بين أصابعها بعد أن تمتص شيئا من لذتها يمحو شيئا من تعب يومها الطويل. الوحيد "علي" الذي يقبل بها تُحمّيه بلبوصا عاريا. عيّل قليل الأدب. حتى مصطفى الذي يصغره بأربع سنوات كاملة لا يقبل. قبلها بساعات كان "عليُّ" يطنّ كنحلةٍ بين أزهار يابسة في آذان الولدين ياسين وحسين، ليجرّهما خلفه باتجاه طاحونة المجذوب كجحشين ربطهما عربجي غشيم بمؤخرة كارو، بعد أن رفض إخوته الصبيان الثلاثة الذهاب معه خوفا من الكلاب المسعورة والصخور الوعرة وأمين المجذوب، ساكن الطاحونة، الذي أقسم جارهم الشيخ يونس أنه لا يظهر خارج طاحونته إلا في الخلاء والزراعات والمصارف وقهوة مجاهد، وخوفا من لدغات أختهم صالحين التي تركت فوق أفخاذهم علامات حمراء كطوابع بريدية قديمة ذات صمغ سوداني عتيد. ولكي يحفّزهما عليُ على خوض المغامرة حكى لهما عن كنز اليهودي خيراللـه الذي دفسه في الطاحونة قبل هجرته لإسرائيل أيام عبد الناصر وسميت باسمه العزبة تاليا، وكانت تلك الرواية التي دأب حسن الكُتبي، على ترديدها دون دليل علمي أو سند تاريخي، لكنها وجدت آذانا التقطتها وأضاف أصحابها إليها. أخبرهما أن الكنز يحرسه عفريت أزرق يخدمه أمين المجذوب وأن لديه تعويذة تفُكّه، وعندما سأله حسين عن التعويذة، أخرج عليّ صفحةً نزعها من كتاب "الكبريت الأحمر والسر الأخفر" وجده بين كتب أخرى يحفظها عمهم حسن الكُتبي في خزانة سريره. كانت جلدة الكتاب حمراء قانية والحروف باهتة بارزة مكتوبة يدويا بخط النسخ، استرعت الصفحة المطوية انتباهه، حاول فتحها فخرجت مهترئة بين أصابعه فدسها في جيبه، مخمّنا أن السرَّ الأخفر هو سر كنز اليهودي خيراللـه، وأن الصفحة المطوية هي فك الطلسم، صدّقه حسين وياسين، وكان دافع حسين ابن متولي الخرار لتصديقه أكبر، فقد أراد بنصيبه من الكنز أن يثني أباه عن نزح طرنشات العزبة بالعربة الطنبور التي تجرها حمارة وابنتها، تسبقه رائحة تزكم الأنوف وتعمي الأبصار. لكن الحلم تبخّر، كما تبخّرت أحلام هامشية أخرى بمجرد دخولهم الطاحونة ورؤيتهم "الجناجم" - هكذا أسموها - وعظام آدمية وملابس بالية وسط صناديق خشبية كبيرة قديمة مغلقة بإحكام. وبعد أن تجاسر "عليّ" وسار أمتارا داخل الطاحونة، وشرع يعبث بمحتواها، طارا ولود الكلب مذعورين في فضاء العزبة كممسوسين، تركاه وحيدا لا يتذكر حرفا من آية الكرسي أو سورة الفاتحة تعينه على فتح واحد من هذه الصناديق التي هي بلا شك كرّازات ذهب اليهودي خير اللـه!

شارك الكتاب مع اصدقائك

2024-01-24