في الأذقة رائحة الخبيز والحلوى لتذكرنا بمحاسن العيش ومذاق العشق، لا احد يكتفي هنا من الخبز بالسكر، من يد الى يد ومن فم الى فم يذوب القمح في الاعماق ثم ينعش الذاكرة المبهمة، في هذه المدينة خياط ينسج ثوبا من الحرير الخالص ولا احد يعرف مصير صاحبه، ربما كان ثوبا لعروس تشتاق وتتمنى او لوالي الخراج الذي يمشي في الارض مغتالا فرحا، ربما كان مصنوعا من خيوط ممتزجة ببلاء ومعاناه او صبر وجلد، هنا يكمن فرح غير مكتمل وجسد عاجز دوما حتى لو اخذته العزة بالإثم.
في هذه المدينة حداد يصنع السيوف ويفكر في من سيموت بها، يتمنى ان تقضي على كل ظالم وكل طامع ويعرف انها ستبتر رءوس بريئة وبعض رءوس التائهين في طرق كلها ظلام وكثير من رءوس المحاربين من اجل الذاكرة التي دوما تتسرب من بين ايدينا، وهذا الدكان ينسخ كتب عن تاريخ قد مضى واخر آت، يحاول ان يجمع الذاكرة في خُفيه ويتذكر حكمة القدماء ولكنه ينهزم امام النار والدمار. وعندما يمحى اثر المدينة وتنتصر القوة على الذاكرة لابد من الكتابة، في الابقاء على الاوراق بعض الانتصار . هنا مات شيخا ولم يتزحزح عن الحق، وهنا راح رجلا ضحية حلمه وهنا تبدى العجز لكل قوى وتفشى الضعف لكل ظالم، هنا اكتشف الانسان انه يفقد بضعة منه في كل يوم يمر عليه وان النهاية قادمة لا محالة وسوف يصاحبها بعض اليأس والكثير من الحنين.)
شارك الكتاب مع اصدقائك
2023-10-01
*** فى بداية مطالعتي لتلك الملحمة كنت مندهشاً من التقييمات المرتفعة للثلاثية ولم يكن فى نيتي إعطائها أكثر من نجمتين (على الأكثر) لإسهاب الكاتبة فى وصف المشاعر و العواطف (من حب أو كره )على حساب الأحداث و أسباب أخرى سيأتي ذكرها ؛إلا أنني كلما غصت فى بحر الملحمة كلما زدت تشوقاً فى الاستزادة و كأنني سقطت فى بحر لا أرتوى من مائه المالح أبداً؛ و عند خروجي من هذا البحر اكتشفت سر هذه التقييمات؛ و لذا خرجت بأن يكون تقييمي عاطفيا و مراجعتي موضوعية.
*** هى رواية تاريخية فى الأساس حيث الغوص فى بحر التاريخ المصرى و الخروج بلؤلوة "الدولة الطولونية" ؛و هى أول دولة بجيش مصرى منذ عهد الفراعنة "المصريين القدماء " نسجتها الكاتبة بخيوط رومانسية و عواطف جياشة و مشاعر صوفية مستعينةً بأدوات لغوية بلاغية بديعة و أسلوب سردي مشوق و غني بالمنحنيات و التويستات الكثيرة سواء المقنعة أو الغير مقنعة.
*** الشخصيات :
-خرجْت من هذه الرواية مرتبطاً بجميع من فيها أحببت أنس و ابن طولون و سعيد الكاتب واندونة الراهب ؛ تعاطفت مع ميسون و كرهت ابن المدبر و ابن سليمان و قاسم الخراساني و اندهشت من ابنة طولون (عائشة )و من حب نادر وجوده عشق مختلط بالتضحية و أحيانا المازوخية.
- الشخصيات كثيرة و لكن منسوجة بعناية لعمل نسيج روائي بديع بكل الألوان من سواد الشر إلى بياض و نقاء القلب.
- وجود بعض الشخصيات الغامضة و التى كانت رمزية مثل "بحنس" ساحرة الهرم حيث كان لها تجليات أكسبت الرواية اللون الصوفي الرومانسي.
*** مأخذي الرئيسي على الرواية ككل أن بها الكثير من الوصف الجنسي للعلاقات الزوجية _و إن كان دون ابتذال غالبا _و قد تنوعت ابتداءًا من وصف المشاعر الداخلية و وصولاً إلى لفظة "غاص بداخلها ".
** العلاقات العاطفية المنسوجة فى ثلاثيتها بها نظرة دونية للمرأة و ارتبطت بقهر المرأة و إذلالها فى الفراش بل واستساغة المرأة ذلك و عشقها لهذا الذل و تجلت هذه المشاهد فى العلاقة بين عبد الرحمن و عائشة؛ فكيف بأميرة ابنة من هو امتداد الفراعنة أن تعشق من يذلها و يهينها!!!!!
**** اللغة :
-أفضل ما فى هذا الرواية فالكاتبة غاصت داخل مكنون لغتنا العظيمة و أمتعتنا بالصور البلاغية البديعة _ و ما أكثرها_ الأمر الذى وصل إلى حد الاستعراض و التباهي بقوة اللغة و الجمل التعبيرية على حساب الأحداث.
- تزيين القصص الثلاثة بأبيات منتقاة من الشعر العباسي و الجاهلي تصل القلب بالأحداث.
- اللمحة الصوفية أكسبت الرواية الكثير من الجمل ذات العمق و الروعة مثل" فى التسليم اعتراف بالعجز و فى الاعتراف بالعجز أمامه الوصول إلى القوة "و " يبتعد الرجل عن المرأة إما لنفوره منها أو لتوغلها داخله " و غير ذلك مما لا يتسع المجال لإفراده.
**** نظرة عامة على الرواية :
اولاً :عندما يجتمع الحب و الكره فى قلب أنس :
- لم أستطع الصبر حتى الانتهاء من الثلاثية و لكن بعد أول جزء من التحفة الثلاثية وجدت لزاماً تسجيل مراجعتي لها.
- هى ليست بالتاريخية وإن كانت بها تلك المسحة حيث الشخصيات الحقيقية من ابن طولون و ابن المدبر والي الخراج و ليست رومانسية و إن كانت تعج بالمشاعر الرومانسية سواء من ميسون و أنس أو حتى ابن المدبر و لكن هذا الجزء يعتبر مسرحاً حيث ملتقى جميع المشاعر الإنسانية السامية منها و الدنيئة ففي القلب الواحد التقي الحب بالكره مثل قلب أنس و العشق مع الأنانية مثل قلب ميسون؛ التقاء التسامح مع الانتقام الأعمى مع الثأر؛ الكثير و الكثير من الخلجات النفسية و استطاعت الكاتبة ببراعة و حرفية إظهار كل تلك الحالات.
*السرد : فى بعض الأحيان عانت القصة من البطء فى السرد و الفقر فى الأحداث و فى أحيانٍ أخرى تسارعت الأحداث فلم يكن السرد متوازناً فى أحداث القصة.
*الحبكة : ممتازة و القصة مليئة بالمفاجآت و التويستات و معظمها مؤلم.
* المغزى :بعيداً عن الشق التاريخي فى القصة و التى كانت شحيحة حيث تولى "ابن طولون" الحكم و بناء القطائع و حربه "ابن المدبر" والي الخراج و لكن المغزي الحقيقي هو ما يمكن أن يفعله الحب و الكره فى الإنسان فحب أنس لميسون و كرهه لابن المدبر كانا السبب فى نهاية حياته فالحب و الكره تزاحما فى قلبه و هو ما جعل ميسون تغار من كرهه لوالي الخراج و عندما وصل لغرضه فى الانتقام من ابن المدبر و خروج الكراهية فرغ قلبه و عانى حتى مات.
* النهاية : مؤلمة سواء موت أنس و ماعانى منه قبل الموت و جنون ميسون.
* * مآخذ على الجزء الأول :
١- بالرغم من براعة الكاتبة فى استخدام اللغة و التلاعب بها ولكن الإسراف و الإسهاب فى تبيان تلك المشاعر أوصل القارئ للملل من توقف الأحداث.
٢- أوضحت الكاتبة جميع الأبعاد النفسية للشخصيات و لكن لم أقنع بالتغير المفاجئ فى مشاعر ميسون من امرأة متكبرة بجمالها و محبة لنفسها (حب ميسون لميسون ) و حالمة بالترف و السلطة لدرجة وقوعها فى غرام ابن المدبر المكروه من أهل مصر جميعاً و أبيها خاصةًإلى التضحية بكل شئ من أجل أنس .
٣- تمني القاضي يحيى وأد ابنته لشدة جمالها يتعارض مع رجاحة عقله المتمثلة فى رفضه الزواج من ابن المدبر و المتمثلة أيضاً فى وجوده فى منصب القاضي أصلاً .
٤- انقلاب القاضي على أنس و ابنته دون أى تمهيد روائي لها فخرجت صورة باهتة غير مقنعة خاصة أنه لم يُعرف عنه الجبن.
٥- وصف موقف القاضي مع ابنته بإلقائها فى اليم يلتقطها بعض السيارة المفروض تكون "الجب ".
ثانياً :ابن طولون من البداية إلى النهاية :
***إنها الرواية التاريخية فى أبهى صورها بل لنقل النموذج الأمثل لعمل رواية تاريخية بسرد أدبي صوفي؛ فكانت كبسولة تاريخية مغلقة غير متصلة بالجزء الأول.
**تداركت الكاتبة فى هذا الجزء أخطاء الجزء الأول فأولت اهتمامها بالأحداث و السرد لتفادي الملل الذى تسرب فى الجزء الأول للقارئ.
** السرد :استخدمت أسلوباً عبقرياً يُحسب لها عن طريق رواة معاصرين لابن طولون و من ايديولوجيات مختلفة فهناك الصديق و العدو و الحبيبة و كلٍ يحكي على شاكلته.
* اهتمت الكاتبة بالجانب النفسي لابن طولون من خلال حواره مع الراهب فى الدير فكان حوارا عميقا يمس القلب قبل العقل؛ و به العشرات من الاقتباسات أهمها "لابد أن تتخلى و أنت تشتهي و تطمع و ليس بعد أن تزهد و تيئس".
* النهاية :كالعادة مؤلمة سواء موت ابن طولون أو عقوق ابنه له.
** مآخذ على الجزء الثاني :
١-أتفهم العلاقة بين ابن طولون و "اندونة " الراهب و تعلمه منه الزهد و التخلي و راحة النفس و لكن لمَ الاعتكاف فى الدير و ليس المسجد؟!!
٢- تمرد العباس على أبيه _و إن كان صحيحا تاريخيا _إلا أنه غير ممهد له روائياً فكانت دخيلة على النسيج الروائي.
ثالثا : الأب يبني و الابنة تمنع الهدم (الوفاء و الخيانة بالعهد ) :
* اتصال ممتاز بين هذا الجزء و سابقيه بظهور شخصيات ميسون و سعيد و أسماء بنت الخياط مما دعم النسيج الروائي للثلاثية.
**هذا الجزء بالذات لي فيه وقفات؛ فكيف بأميرة تعشق من يهينها و يذلها؟!! تعطيه الجسد و القلب و الذهب و فى المقابل _على الأقل فى بادئ الأمر _ يعطي جسده للجواري و قلبه لابنة عمه و الذهب للعدو.
** الحبكة :ينقصها الكثير لكنها إجمالاً مشوقة كالوردة تنظر لها من الخارج و لكن عند تفتيتها تجد الشوك و هنا كان الشوك فى الآتي :
١- بداية القصة غير مقنعة أن تنظر عائشة إلى الرجال فى الطريق لتشير إلى من تريده ليحميها و يحمي المسجد؛ فكيف إذا لم يكن شيخ قبيلة و كان شخصا عاديا.
٢-المازوخية التى ظهرت فى علاقة عائشة بزوجها فهو الشخص الشهواني السكير السارق و قاطع الطريق و الغير ملتزم بالعهد.
٣- التحول المفاجئ فى علاقة عائشة بعبد الرحمن دون مبرر درامي واضح فهو وعدها بحمايتها فقط و هى لم تقبل إلا بحماية المدينة بالكامل و هذا ما لم يتم.
٤- كره "سليمة" "لعائشة" و تحميلها السبب فى الخراب الذى أصاب القبيلة دون توضيح أنها عرفت حقيقتها أو أن عبد الرحمن يحارب من أجلها.
٥-فكرة بحث الخليفة العباسي عن ابنة طولون فى أرجاء مصر مردود عليه للأسباب الآتية:
أ-الخليفة العباسي لا يحتاج إلى شرعية لتثبيت حكمه فى مصر بل العكس هو صاحب الشرعية "خاصة أنه منتصر " و ابن طولون هو من كان يحتاج إلى الزواج بمصرية.
ب- لا يعقل ألا يهتم الخليفة بآخر الذكور من سلالة طولون بحجة أنه طفل و يهتم بامرأة مجهولة لتوطيد حكمه.
ج-فرضاً أنه أراد الزواج من سلالة طولون فلماذا البحث عن المجهول و هو عنده حفيدة أحمد و ابنة خمارويه.!!! ؟
٦-بالرغم من جرائم العباسيين المثبتة فى التاريخ و لكن هدم مسجد دون سبب و مهادنة المصريين لهم على ألا يهدموا المسجد غير ممكن.
٧-تعذيب شيخ قبيلة بني سالم لعائشة زوجة ابن شيخ القبيلة السابق ليس له معنى و يتنافى مع صفات العرب فى عدم التعرض للنساء.
****إجمالا الثلاثية أكثر من رائعة تحكي عن حقبة منسية من التاريخ المصري و هي الحقبة الطولونية؛ مليئة بالمشاعر المتناقضة "حب و كره؛ ذل و كبرياء؛ تسامح و انتقام... الخ" ؛مجهود مبذول كبير تاريخيا و لغويا و روائيا و بالرغم من بعض الملاحظات إلا أنها بحقٍ زهرة فى بستان الأدب التاريخي العربي.