كتعلاء خالداب أمكنة: الكتاب العاشر بقلم علاء خالد.."أمكنة"، مجلة تعنى بثقافة المكان، تصدر من مدينة الإسكندرية، تلك المدينة العريقة بثقافتها وبحرها وتعدد وامتزاج الأعراق والثقافات بين جوانبها، ومكتبتها الشهيرة، وروح أمكنتها المتحولة. إنها المدينة الثرية بامتياز بتوالد كائناتها الخلاقة وتناسل رياحها المتغيرة. إنّها المدينة/ الجسد، الخصب والغامض والساحر والأبديّ.. العدد العاشر الجديد من مجلة "أمكنة" الذي صدر في سبتمبر 2010، والذي وسم على صدر الغلاف بأنه "عدد ممتاز"، أو "الكتاب غير الدوري" في تسمية أخرى بديلة،
يخصص هذه المرّة مجمل محتوياته من المقالات والشهادات والحوارات للحياة الطلابية التي مرّ بها عدد من الكتاب والمثقفين وعلامات السياسة والفكر والأدب، أولئك الذين وجدوا في الحياة الجامعية متنفساً خصباً لهم وفضاء تتحدّد فيه الاختيارات وتتشكّل فيه طرائق التعبير عن الرأي الحرّ الخلاق، كما يبرز الكتاب/ المجلة -من خلال استدعاء تجارب طلابية كان لها دور طليعيّ في الحياة الجامعية- جوانب منسية وذكريات مندسّة في طيّات السير الذاتية واليوميات والأوراق التي كاد أن يطمرها النسيان في هذا العصر الأحاديّ البعد المليء بالبهرج والتنميق والفجائعية الثقافية والأخلاقية.
لقد استغرق الشاعر السكندري علاء خالد، وزوجته المترجمة والفنانة الفوتوغرافية سلوى رشاد، بمشاركة الكاتب والشاعر مهاب نصر، في إنجاز عمل توثيقي في غاية الأهمية. فمن النادر هذه الأيّام في الصحافة العربية أن تطبخ الموادّ على نار هادئة، وأن تكرّس خمسمائة صفحة لصالح ثيمة أساسية، فيها قدر كبير من الحميمية في التناول، وفيها حسّ بمسؤولية الحفظ والتوثيق لمرحلة الفوران والدفق الذي شهدته سنوات الجامعة، منذ تأسيس الجامعة المصرية في عام 1908، أو جامعة "فؤاد الأول"، التي حملت اسم "جامعة القاهرة" فيما بعد، إضافة إلى الجهد الجليّ في البحث عن الأوراق والكتب والمذكرات التي تخصّ حياة الجامعات المصرية، ورصد تحولاتها وتجلياتها وانكساراتها...
لم يكن غريباً على "علاء خالد"، ذلك الدمث والإنسانيّ، "المتمرد الذي لا يدين لأحد"، والذي ينطلق من الشعر أولاً، أن يبحث في روح المكان، وأن يأخذ المغامرة من واقع تكدّست فيه الحكاية والفنتازيا، وأن يقترب من الأمكنة كما لو كان يستنطقها مرة أخرى ويحاول أن يفكّر فيها ومعها وأن يسافر مع أشيائها الصغيرة وأحداثها الكبرى وأشخاصها العابرين الذين أشعلوا حضورهم في قلبها وبذروا بذور حيواتهم عميقاً في طميها وترابها.
الحوارات التي أجراها علاء خالد والاستطرادات والشواهد التي استغرقت الستين صفحة في هذا العدد، على درجة كبيرة من الأهمية، باعتبارها وثاثق ومراجع لا غنى عنها في فهم الحياة الجامعية وفي الإحاطة بذلك الزمن الحالم الذي يكاد أن يبتلعه طوفان الحاضر الهادر.
ولأنّ علاء خالد كان قريباً من الحياة الجامعية في السبعينات فقد التقى ونقّب وبحث في المتن والهامش السيريّ للحياة الجامعية ما قبل ذلك، خصوصاً في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات وستينات تلك المرحلة...هو الذي كان "من هؤلاء الذين وجدوا في الفن والأدب مجالاً خصباً لتفريغ طاقتهم في الرفض، خارج أسوار الجامعة"...
في هذا الكتاب/ المجلة نتعرف على لطيفة الزيات في أربعينات القرن العشرين وقد تحولت من جسد أنثوي مربك لحركتها إلى مفكرة وزعيمة طلابية، وعلى الصحفية والكاتبة صافي ناز كاظم (التي تسكن حالياً أمام مقر إدارة جامعة عين شمس القديم). في أشهر عسلها الأولى بعد زواجها من أحمد فؤاد نجم، تشارك في اعتصام الطلبة في يناير 1973، وقد قفلت للتوّ من أداء فريضة الحج. متذكرة في حوارها مع علاء خالد رموز الحركة المصرية المناوئين للاستعمار، مثل مصطفى كامل ومحمد فريد وأحمد وعرابي وعبدالله النديم الذي "قعد هربان 9 سنين في أحضان الشعب المصري". في العدد نتعرف على الجسر الذي أقامه أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، بين خوش قدم (غرفتهما الوحيدة المتواضعة في مبنى أثري في شارع خوش قدم بحيّ الغورية) وبين الجامعة، التي كانت مسرحاً للحركات الطلابية ومركزاً مشعاً للقوى السياسية المؤثرة، فقد كانا ضيفين دائمين على مدرجات الجامعة في ذلك الغليان الذي كانت تشهده الحياة السياسية في مصر. وعن هذه الظاهرة الغنائية والفنية الفارقة يحكي في العدد كل من أمير العمري والكاتب والصحفي صلاح عيسى ود.كمال مغيث، حيث "أصبحت مدرجات الجامعة تردد مع الشيخ إمام كلمات أغانيه التي تقطر وطنية وحماسا: رجعوا التلامذة/ يا عمّ حمزة للجدّ تاني/ يا مصر إنتي اللي باقية وانتي قطف الأماني".
في العدد استقصاء وافر عن رواد الحركات الطلابية، كسهام صبري طالبة الهندسة، التي كانت من أبرز زعماء الحركة الطلابية المصرية بين عامي 1972 و1973 التي توفيت في عام 2003 بعد أن التجأت في سنوات حياتها الأخيرة داخلياً إلى حالة من حالات التصوف. وهنالك فاروق القاضي وعبدالحكم الجراحي ولطيفة الزيات ثمّ علاء الديب في الخمسينات الذين مروا على كوبري عباس/ كوبري الجامعة، ذلك الجسر الذي انشطر إلى شطرين، وشهد مذبحة شهيرة في مظاهرات 9 فبراير 1946 ومات فيها الكثيرون غرقاً في النهر بعد تدفق حشود الطلبة والاشتباك الذي حصل في الكمين المدبّر ضدهم. عبدالحكم الجراحي القادم للتوّ من فرنسا، سيصبح أول شهداء الجامعة من الطلبة، فقد تلقى عدة رصاصات في صدره في مظاهرة على جسر عباس في عام 1935 بعد أن صرخ في وجه الضابط الإنجليزيّ الذي أطلق النار على زميله محمد عبدالمجيد مرسي، فيفارق الجراحي الحياة بعد أيام من ذلك، بعد أن كتب أثناء احتضاره رسالة إلى رئيس وزراء إنجلترا، يقول فيها بأنّ "الموت أمر صغير وآلام الموت عذبة المذاق من أجل مصرنا نحن". الجراحي فله نصب معروف في حرم جامعة القاهرة، باعتباره الشهيد الأول من الطلاب، في تلك المظاهرة ضدّ الإنجليز.
في هذا العدد من "أمكنة"، رصد للحياة الطلابية على مستويات متعدده، حيث لا تمثل ساحاتها مكاناً للتظاهر والتعبير عن الرأي الرافض ضد الاستعمار وأشكال الفساد فحسب، بل مكاناً يجذر لحظات التحول في حياة الطلاب، حيث الأفق الواسع للحرية والاطلاع والتعرف على الفن والموسيقى وعلاقات الحب، كما في تجربة علاء الديب الذي رسب في السنة الثالثة بعد أن دخل في قصة غرام "خايبة". علاء الديب الذي التحق بالجامعة في 1957، يشير كذلك إلى "شلة الجامعة" ومن بينهم وحيد ورجاء النقاش وإبراهيم منصور وغالب هلسا (الذي كان لديه شقة في ميدان الدقي) حيث يلتقون هنالك بعبدالمحسن بدر وفاروق شوشة وسليمان فياض وأبو المعاطي أبو النجا وإبراهيم أصلان..
وهنالك أصوات ريفية قادمة للمدينة تسرد تجربتها، مثل سيد البحراوي الذي شارك في مظاهرات انتفاضة الخبز في يناير 77 مع زميله المعيد بالقسم نصر حامد أبو زيد، والذي يحيي في الأخير جرأته الأكاديمية، وبنت الشاطيء القادمة من دمياط، التي ارتبطت بعلاقة حب وزواج فيما بعد مع أستاذها أمين الخولي. وأصوات قادمة من طبقات أرستقراطية مثل د.أمينة رشيد، والتي هي حفيدة رئيس وزراء مصر إسماعيل صدقي باشا، وكانت تتحرج من علاقتها بجدها، والدكتور محمد أبو الغار، "الذي اشترى له والده مدير البنك عربة أصبحت عربة الشلة".
هنالك أيضاً تلك الأصوات الساخرة مثل محمد المخزنجي، القادم من المنصورة، الذي كان يحب السفر على سطوح القطارات، ذلك "العقل الساخر" والهارب من السفسطة والجدل المخجل، والذي قدّم امتحانه في السجن في السنة الخامسة طب.
******
كتابٌ جدير بالقراءة، بما فيه من شهادات تربو على الأربعين، ومن صور فوتوغرافية، تؤرشف وتوثق لتلك الحياة المليئة بالحراك والإحساس بالمسؤولية ونداءات الضمير، وبالخفة الحرة والعين البادئة التي تقرأ طاقة الداخل وسيلان الزمن.
إنها ليست مجرد شهادات وحوارات عن سنوات الجامعة وعن الحياة الطلابية في مصر، بل هو نوع من التقييم لمرحلة بأكملها، وإصغاء إلى دور الذات والمجموع، والكشف عن مقاييس الصعود والهبوط، الإمكانات الفذة والانكسارات المؤلمة، الحلم الهائل والواقع المنحطم، الثقافة الحاضنة لتلك الأحلام أو الطاردة لها