الأعمال الشعرية - شوقي بزيع بقلم شوقي بزيع ...لو أريد وصف تجربة شوقي بزيع الإبداعية بكلمة واحدة لما كان هناك أفضل من "النهر"، حركته متجددة دائمة وماؤه واحد لا يتغير، ولو أريد اختصار لغته الشعرية بلفظة لقيل أنها الشجرة، جذورها ضاربة في الأرض وأغصانها مسافرة في فضاء الإنسانية الرحب. لم يحمل الشاعر الشاب قلمه في
السبعينيات إلا ليكتب المكان علّه لا يتلاشى تحت أقدام الغزاة. كأن القصيدة تمسك الرمل حتى لا ينزلق من بين الأصابع، أو تغرس ذاتها في التراب كي لا يزحل. لذلك اقترنت في عناوين الدواوين الثلاثة الأولى مفردات تنتمي إلى حقلين دلاليين مختلفين: الكتابة والمكان. إن "عناوين سريعة لوطن مقتول" ليست سوى محاولة مبكرة لمواجهة الموت ومنع المكان من الانزلاق والتبعثر و"الرحيل شمس يثرب" هو بحث مرير عن المدينة الرمز التي ابتلعتها لجة الزمن الغائب. أما "أغنيات حبّ على نهر الليطاني"، فليست الحبيبة فيها سوى الأرض، وليس النهر فيها مجرد إطار جغرافي للقاء حبيبين على ضفتيه؛ بل هو نفسه الحب وموضوعه. تمثل هذه الدواوين المرحلة الشعرية الأولى حيث القصائد طويلة بغالبيتها تغذيها نفحة غنائية واضحة تجعل منها أناشيد يطلقها الشاعر لتمجيد قوافل الشهداء فتنبض بنفس ملحمي يلهب الجماهير ويشعل فيها جذوة الثروة والمقاومة، أو يرفعها إلى حبيبة بعيدة المنال فترق كتراتيل أو صلوات. ذلك أن الكتابة تتمحور حول الأرض والحب، والوطن الذي تمزقه الحرب الأهلية ويدميه العدوان الصهيوني، والمرأة التي تلهم القصيدة وتعدّ بلقاء مستحيل. وسواء كتب الشاعر شعراً مقاوماً أو غزلاً فهو لم ينزلق إلى سهولة التعبير أو إلى الكتابة البوحية حيث القصيد شجو أو بكاء. ذلك أن الإحساس لا يصل إلا مقنعاً بلغة المجاز، متلفعاً بعباءة الصورة. وهو اختار الخروج على القصيدة العمودية وعدم الالتزام بالوزن والقافية أشكالاً وقوالب تفرض على القصيدة من خارج ليتجه نحو شعر التفعيلة وليعتمد على الإيقاع الداخلي الذي يتماهى مع حركة التجربة وهي ترتسم على الصفحة وفق تشكيلات بصرية حيث للمساحة البيضاء لغة خاصة، كأن التشكيل طريقة جديدة لأداء المعنى، أو كأنه الوجه الآخر للكلام. كذلك نراه يمارس لعبة تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة التي تكتسب في بعض الأحيان بنية مسرحية وتتنوع فيها المشاهد. وقد حافظ الشاعر على هذه التقنية من خلال مسيرته الطويلة التي بدأت تتجه نحو مرحلتها الثانية مع ديوانه الرابع "وردة الندم" الذي تشير بنيته الثلاثية إلى الأسس الثلاثة التي ستقوم عليها التجربة الشعرية في الدواوين اللاحقة. إذ يظهر إضافة إلى المحورين البارزين في المرحلة الأولى محور جديد هو القصيدة التي تتكلم عن نفسها لتكشف عن أسرار الدخول في الحالة الإبداعية ولتضيء نظرة الشاعر إلى نفسه وإلى فنه كما إلى علاقته بجمهوره. ويمكن القول، وبعد إطلالة على تجربة شوقي بزيع في أعماله الشعرية هذه، بأنه استطاع أن يذهب بعيداً في اجتراح القصيدة الجديدة والمغايرة، وأن يضيف الكثير إلى الإبداع الشعري العربي ويرفد الكتابة الشعرية المعاصرة بلغة مشبوبة وقلقة وغنية بالدلالات. وإذا كان طموح كل شاعر حقيقي "أن يستهل الأبجدية"، كما يعبر بزيع في أحد قصائده، فهو بهذا قد خطا خطوات حثيثة وواسعة على طريق الفرادة والتمييز والاختلاف.