كتاب الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤولياتهم الاجتماعية في زمن الغيلان بقلم ياسين الحاج صالح ....الثقافة قوة سياسية بما هي ثقافة، بما هي شكل من أشكال العمل العام له شخصيته الخاصة وكرامته الذاتية. من واجب المثقفين أن يتدخلوا في السياسة في كل وقت، في أوقاتنا الدموية اليوم بخاصة، وأن يقولوا كلاماً واضحاً عن السلطة وعن السجن والتعذيب والعنف والتمييز والقتل والمنفى والكراهية والتحقير والتعصب والعنصرية. لكن هناك شيء واحد أسوأ من أن يعمل المثقفون كسياسيين عمليين، هو زعم المثقف بأن مجاله هو الفكر
أو الفن، أو أنه لن "يلوّث" نفسه بالسياسة وشؤونها. في مثل شروطنا الراهنة، هذا المسلك استراتيجية تبرّر الراهن دوماً، ولا تبرّر غيره. حين يُقتل الناس بكل طريقة، حين يُذلّون ويُهانون، حين يُحاصرون ويُجوَّعون ويموتون جوعاً، وحين يكون ذلك سياسة عامة شعارها هو "الجوع أو الركوع"، حين تُغتصب النساء والأطفال في مقرّات أجهزة الأمن، حين يُقتَل المئات منهم بالغازات السامة خلال ساعة، حين يُدفَنون تحت أنقاض بيوتهم المقصوفة بالبراميل المتفجّرة، فإن من يتعالى حينها على السياسة فاقد للإحساس وللإنسانية ذاتها، ويغلب أن يكون هذا التعالي قناعاً للانحياز إلى الأوضاع القائمة، وهو يجرّد نفسه من القدرة على إدانة قتلة آخرين إدانتهم واجبة: داعش وأخواتها.هذا أصل بعض صمت الصامتين؛ تصمت لزمن طويل على قاتل تواله، فلا يبقى لك وجه للكلام على قاتل صاعد تعاديه.لا يمكن للخوف أو لعواقب قول الحقيقة أن يكون مسوّغاً كافياً للالتزام بمحرّمات يُفترَض أن تحدّيها وانتهاكها هو تعريف المثقّف بالذات حتى قبل أن يكون واجبه. الموضوع أهمّ من أن يُسكت عنه من جهة، والمعنيّون فئة يتمتّع أفرادها بحصانة نسبية أكبر من غيرها من جهة ثانية.