كتاب الجواهري : جدل الشعر والحياة بقلم عبد الحسين شعبان..عرف الدكتور شعبان بدراساته الأدبية والفكرية وبحوثه الثقافية ذات النزعة التجديدية والإنسانية، فهو باحث أكاديمي متخصص، وحقوقي بارز تميز بآرائه النقدية الجادة التي ظهرت في العديد من مؤلفاته المنشورة. وحين درس، في هذا الكتاب، شعر الجواهري، لم يقصر اهتمامه فقط على الناحية التأثيرية أو الانطباعية، أو تذوق العنصر الوجداني الخالص، ولكنه عني كذلك بالجوانب الموضوعية التطبيقية، حين ربط شعره بأحداث التاريخ. فالجواهري شاهد على التاريخ، وشعره يمثل تاريخ العراق الحديث منذ بداية تأسيسه، بحيث أصبحت كل قضية تؤرخ لحدث واقعي معين من تاريخ الشعب العراقي، ولا سيما الجانب السياسي منه، حتى إننا نستطيع القول إن من يريد دراسة تاريخ العراق المعاصر، عليه أن يبدأ بدراسة شعر الجواهري أولاً.
ولعل من أبرز مزايا هذا الكتاب الممتع أن المؤلف خرج في تأليفه عن الطرق التقليدية المتبعة في كتابة الدراسات الأدبية والسير الذاتية التي اعتادت أن تتبع منهجاً معيناً من مناهج البحث العلمي، أو تلزم نفسها بنظرية مدرسة معينة إزاء كتابة حياة المشاهير أو سير أبطال التاريخ، وإنما تخطاها إلى فضاء أرحب، يتسع لرحابة شعر الجواهري وحياته العريضة اليت لم تعرف منهجاً محدداً، ولم تحدها حدود، فترك البحث يسلك مجراه الطبيعي في تدفق الأحداث وتحرك أجواء الشعر وانسيابه بتلقائية مع جريان نهر الذكريات في ذاكرة الشاعر الكبير. فاستقام الكتاب وكأنه ليس نوعاً من كتب "الأوتو بايوغرافي"، وإنما هو فصول رواية شائقة، تتعدد فيها المشاهد وتتصارع داخلها الأحداث الدرامية عبر حركة دائبة للشخوص والأبطال.
من مزايا هذا الكتاب أيضاً أنه ينصف الجواهري من زمنه وناسه، ويضع الحقائق واضحة أمام القارئ، بموضوعية تزيل كثيراً من الشوائب والملابسات التي حاول حساد الشاعر وأعداؤه أن يلصقوها به. فقد ظلم الجواهري كثيراً من قبل الساسة والحكام، وأصابه الحيف والغبن من شتى العهود والحكومات، بسبب مواقفه الجريئة المشرفة، ووقوفه إلى جانب شعبه في كل معاركه النضالية.
وظلم أيضاً من قبل المقربين إليه، من فئات سياسية أفنى عمره معها، وحسب عليها، وكان يفترض بها أن تقف إلى جانبه في الأزمات، فوقفت إلى جانب أعدائه. كما امتد الظلم والتنكر ليأتي من بعض أصدقائه من أدعياء الأدب فأساؤوا فهمه، ولم ينصفوه، بل شهروا أقلامهم -تحت ضغوط معينة وأهواء مادية- لمعاجمته والنيل منه. فهذا الكتاب ينصف الجواهري من خلال الحقائق الموضوعية التي طرحها بدقة وعناية.
لقد كتب هذا الكتاب السوسيوثقافي بأسلوب مشوق ولغة شفافة، مع تحليل عميق للأحداث والشخصيات التي عاصر المؤلف بعضاً منها معايشة أو متابعة، مما يعطي القارئ متعة جمالية فريدة إلى جانب غزارة المعلومات التاريخية والأدبية. وبالرغم من أن كتباً عديدة ودراسات جمة قد كتبت عن الجواهري وشعره، وتناولته عبر زوايا مختلفة من مراحل حياته، ولكنها قلما عنيت بالجانب التوثيقي والتاريخي للأحداث والشخصيات المهمة الفاعلة في الحياة السياسية والحزبية في العراق، مثلما عني بها هذا الكتاب.