كتاب السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي بقلم كرم نعمة....يطلق كتاب "السوق المريضة الصحافة في العصر الرقمي" للكاتب والصحفي العراقي كرم نعمة عن دار لندن للطباعة والنشر حزمة من الأسئلة على الأزمة الوجودية التي تعاني منها الصحافة منذ أكثر من عقد، وأجوبة أقل منها، لكنه في الوقت نفسه يحرض على الحصول على المزيد من الإجابات ودعم المجتمعات للحفاظ على الصحافة بوصفها ضامنا لحرية تبادل الأفكار المعلومات في ديمقراطية حرة. هذا الكتاب الذي يحوي 620 صفحة من القطع الكبير، هو الخامس لكرم نعمة المهتم بشؤون الصحافة والمدافع الدائم عنها بحكم تجربته في العمل الصحافي التي تمتد لأكثر من أربعين سنة. وعبر ثلاثة فصول عن "أزمة الصحافة الوجودية" و "الحقيقة القبيحة وما بعدها" الذي يتابع بمتعة مواقع التواصل الاجتماعي والشركات التكنولوجية وتأثيرها على الصحافة، ثم الفصل الثالث عن "عصر التلفزيون الذهبي" يأخذنا المؤلف في رحلة طويلة ليس في حجم الكتاب، بل في زمن الأحداث عبر مراقبة دائمة لكل ما مر على الصحافة على امتداد أكثر من عقد من الزمان وكأن كتاب "السوق المريضة" مجموعة قصصية كتبت بلغة أدبية مفعمة بالحس الصحفي ولغة مشوقة محملة بالتساؤلات يتقنها المؤلف كرم نعمة. وهنا تكمن أهمية الكتاب ليس لطلاب الصحافة والإعلام في الجامعات العربية، بل لكل المهتمين بالمستقبل الإعلامي، لأن متن الكتاب بالأساس يحاول ربط ما جرى على الصحافة العالمية بالقارئ العربي.
2023-06-24
هذا الكتاب الذي يحوي 620 صفحة من القطع الكبير، هو الخامس لكرم نعمة المهتم بشؤون الصحافة والمدافع الدائم عنها بحكم تجربته في العمل الصحافي التي تمتد لأكثر من أربعين سنة قضى منها أكثر من عشرين سنة في لندن كمدير تحرير لصحيفتي (الزمان) و(العرب) اللندنيتين.
وعبر ثلاثة فصول عن "أزمة الصحافة الوجودية" و "الحقيقة القبيحة وما بعدها" الذي يتابع بمتعة مواقع التواصل الاجتماعي والشركات التكنولوجية وتأثيرها على الصحافة، ثم الفصل الثالث عن "عصر التلفزيون الذهبي" يأخذنا المؤلف في رحلة طويلة ليس في حجم الكتاب، بل في زمن الأحداث عبر مراقبة دائمة لكل ما مر على الصحافة على امتداد أكثر من عقد من الزمان وكأن كتاب "السوق المريضة" مجموعة قصصية كتبت بلغة أدبية مفعمة بالحس الصحفي ولغة مشوقة محملة بالتساؤلات يتقنها المؤلف كرم نعمة.
وهنا تكمن أهمية الكتاب ليس لطلاب الصحافة والإعلام في الجامعات العربية، بل لكل المهتمين بالمستقبل الإعلامي، لأن متن الكتاب بالأساس يحاول ربط ما جرى على الصحافة العالمية بالقارئ العربي.
فيقول المؤلف "لم تعش وسائل الإعلام المطبوعة زمنا غير عادل بحقها مثلما مر عليها منذ أن فتح علينا السيد غوغل نوافذه. ولم تدخل في تاريخها منافسة غير عادلة، إلا عندما صنعت شبكة الانترنت نموذجها الإخباري في وسائل التواصل الاجتماعي، وشكل فيسبوك جمهورية افتراضية يسكنها أكثر من ثلاثة مليارات مستخدم".
وكان على الصحافة أن تعبّر عن نفسها في تلك الحرب غير المتكافئة في العصر الرقمي وهي تدار من جيوش المواطن الصحافي والأخبار الزائفة. مع ذلك يرى كرم نعمة أنها بقيت صامدة فيما سمي بعصر ما بعد الحقيقة، وبقيت نماذجها المثالية المخلصة لجوهر الصحافة وحدها مثالا تاريخيا كما كانت وكما ستبقى في العصر الرقمي.
وفي مقالات هذا الكتاب سيجد القارئ احتفاء بتلك الأمثلة التاريخية في الصحافة الورقية عندما نعرف الأرقام المليونية المستمرة إلى اليوم في توزيع صحف مثل فايننشيال تايمز ونيويورك تايمز،لكن لسوء الحظ لا يجد المؤلف مثالا عربيا يستعين به على نجاح الصحف.
ويستعير المؤلف جملة تاريخية تقول إن "شكل الصحافة العام وطبيعتها لا يحددهما أحد بالتالي سوى القراء" ليصل إلى أن الصحف والمجلات يجب أن تتجاوب مع قرائها إذا كانت ستبقى على موقعها في سوق التنافس وهذا الذي سيدفع عنه القراء مالًا في اقتنائهم الصحيفة برغبة القراءة وليس أي رغبة أخرى.
وبشأن الحياد والموضوعية يقول مؤلف كتاب "السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي" لم يكن جورج أورويل إلا محاولا أن يكون حياديا بتخليص ذاته من التأثير على كونه صحفيا في جملته الشهيرة “هناك أوقات لا يستطيع فيها الصحافي تجنب كونه جزءا من القصة” كان يريد أن يقول: الصحافي سمع وشاهد القصة وليس جزءا منها، ولا يملك الحق الأخلاقي أن يقحم نفسه كجزء فاعل أو هامشي في متنها.
لذلك يرى أن الاستقلال التحريري والنزاهة هما أكبر أسلحة وسائل الإعلام في الدفاع عن خطابها أمام منافسة متزايدة، هذه ليست مجرد مسألة أخلاقية في العصر الرقمي، فجملة “ثق بي، أنا صحافي” لا يمكن إطلاقها لمجرد المزاح، الأمر أكبر بكثير من مصالح المعلنين والتجاروأصحاب القرار السياسي.
ويربط في واحدة من المقالات الجميلة في الكتاب بين الأديب والصحفي بتساؤل: هل الكتّاب الكبار هم صحفيون كبار؟ يمكن أن نتحدث هنا عن غابريال غارسيا ماركيز وأمبرتو ايكو، كما سبق وأن تم الحديث عن همنغواي كصحافي، هل أدرك ت. أس. اليوت مثلا الحس الصحافي عندما كان يقيس الزمن بملاعق القهوة والشاي؟.
ويقول المؤلف "ثمة ما هو أكثر مما قدمته دالاوي"!، ففرجينيا وولف أكثر بكثير من روائية، كما يكشف لنا الناقد الألماني ميشائيل مار مقطعًا عرضيًا مركزا عن فرجينيا وولف بعد شهرتها ككاتبة لمراجعات الكتب في ملحق جريدة التايمز، وكيف لفت كتابها "القارئ العادي" وصارت تقرأ بانتظام يذكرنا بغوتة، والملاحظات التي خلفتها حول قراءتها تملأ لوحدها نحو ثلاثين مجلدًا.
أما الترفع المبالغ فيه لبعض الكتاب عن الصحافة فلا يمكن تفسيره بأكثر من ضعف أدواتهم في تقديم المادة الصحافية بتقنية مقنعة للقارئ وخالية من الاستطرادات الفارغة وغير المهمة، وهذا التفسير يساعدنا في عرض أمثلة مهمة عن صحافيين نجحوا في كتابة أدب متميز، بينما نجد عددا أقل منهم بكثير من الأدباء الذين أقنعوا القارئ بإنجازاتهم الصحافية.
وفي فصل مواقع التواصل لا يتوقف المؤلف عن النظر بازدراء لإمبراطورية فيسبوك ويصفها بأنها أكبر دولة في التاريخ عندما يسكنها أكثر من 3 مليارات شخص، يؤثرون على قيم وسلوك المجتمعات مثلما يهددون الحكومات.
بينما يعبر عن أمله أن تستغل التلفزيونات في العالم العربي العصر الذهبي للتلفزيون وتقديم محتوى يرقى بالذائقة البصرية، منتقدا بشدة ضحالة الأفكار واللغة الركيكة التي تتميز بها المحطات العربية.
وفي النهاية هذا الكتاب الذي يتجول فيه كرم نعمة في سوق الصحافة المريضة يتبضع الكثير، لكنه لا يقترح إلا القليل من العلاج لتلك السوق. مع ذلك يبدو من الضروري مطالعته لمن يريد أن يعرف ماذا حدث للصحافة منذ أن افتتح غوغل نوافذه وصار سكان هذا العالم مدمنين على منصاتهم الشخصية بينما لا أحد يسأل عن الجريدة الورقية فتراجعت متعة قراءتها مع قهوة الصباح.
عيسى القصابي
وعبر ثلاثة فصول عن "أزمة الصحافة الوجودية" و "الحقيقة القبيحة وما بعدها" الذي يتابع بمتعة مواقع التواصل الاجتماعي والشركات التكنولوجية وتأثيرها على الصحافة، ثم الفصل الثالث عن "عصر التلفزيون الذهبي" يأخذنا المؤلف في رحلة طويلة ليس في حجم الكتاب، بل في زمن الأحداث عبر مراقبة دائمة لكل ما مر على الصحافة على امتداد أكثر من عقد من الزمان وكأن كتاب "السوق المريضة" مجموعة قصصية كتبت بلغة أدبية مفعمة بالحس الصحفي ولغة مشوقة محملة بالتساؤلات يتقنها المؤلف كرم نعمة.
وهنا تكمن أهمية الكتاب ليس لطلاب الصحافة والإعلام في الجامعات العربية، بل لكل المهتمين بالمستقبل الإعلامي، لأن متن الكتاب بالأساس يحاول ربط ما جرى على الصحافة العالمية بالقارئ العربي.
فيقول المؤلف "لم تعش وسائل الإعلام المطبوعة زمنا غير عادل بحقها مثلما مر عليها منذ أن فتح علينا السيد غوغل نوافذه. ولم تدخل في تاريخها منافسة غير عادلة، إلا عندما صنعت شبكة الانترنت نموذجها الإخباري في وسائل التواصل الاجتماعي، وشكل فيسبوك جمهورية افتراضية يسكنها أكثر من ثلاثة مليارات مستخدم".
وكان على الصحافة أن تعبّر عن نفسها في تلك الحرب غير المتكافئة في العصر الرقمي وهي تدار من جيوش المواطن الصحافي والأخبار الزائفة. مع ذلك يرى كرم نعمة أنها بقيت صامدة فيما سمي بعصر ما بعد الحقيقة، وبقيت نماذجها المثالية المخلصة لجوهر الصحافة وحدها مثالا تاريخيا كما كانت وكما ستبقى في العصر الرقمي.
وفي مقالات هذا الكتاب سيجد القارئ احتفاء بتلك الأمثلة التاريخية في الصحافة الورقية عندما نعرف الأرقام المليونية المستمرة إلى اليوم في توزيع صحف مثل فايننشيال تايمز ونيويورك تايمز،لكن لسوء الحظ لا يجد المؤلف مثالا عربيا يستعين به على نجاح الصحف.
ويستعير المؤلف جملة تاريخية تقول إن "شكل الصحافة العام وطبيعتها لا يحددهما أحد بالتالي سوى القراء" ليصل إلى أن الصحف والمجلات يجب أن تتجاوب مع قرائها إذا كانت ستبقى على موقعها في سوق التنافس وهذا الذي سيدفع عنه القراء مالًا في اقتنائهم الصحيفة برغبة القراءة وليس أي رغبة أخرى.
وبشأن الحياد والموضوعية يقول مؤلف كتاب "السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي" لم يكن جورج أورويل إلا محاولا أن يكون حياديا بتخليص ذاته من التأثير على كونه صحفيا في جملته الشهيرة “هناك أوقات لا يستطيع فيها الصحافي تجنب كونه جزءا من القصة” كان يريد أن يقول: الصحافي سمع وشاهد القصة وليس جزءا منها، ولا يملك الحق الأخلاقي أن يقحم نفسه كجزء فاعل أو هامشي في متنها.
لذلك يرى أن الاستقلال التحريري والنزاهة هما أكبر أسلحة وسائل الإعلام في الدفاع عن خطابها أمام منافسة متزايدة، هذه ليست مجرد مسألة أخلاقية في العصر الرقمي، فجملة “ثق بي، أنا صحافي” لا يمكن إطلاقها لمجرد المزاح، الأمر أكبر بكثير من مصالح المعلنين والتجاروأصحاب القرار السياسي.
ويربط في واحدة من المقالات الجميلة في الكتاب بين الأديب والصحفي بتساؤل: هل الكتّاب الكبار هم صحفيون كبار؟ يمكن أن نتحدث هنا عن غابريال غارسيا ماركيز وأمبرتو ايكو، كما سبق وأن تم الحديث عن همنغواي كصحافي، هل أدرك ت. أس. اليوت مثلا الحس الصحافي عندما كان يقيس الزمن بملاعق القهوة والشاي؟.
ويقول المؤلف "ثمة ما هو أكثر مما قدمته دالاوي"!، ففرجينيا وولف أكثر بكثير من روائية، كما يكشف لنا الناقد الألماني ميشائيل مار مقطعًا عرضيًا مركزا عن فرجينيا وولف بعد شهرتها ككاتبة لمراجعات الكتب في ملحق جريدة التايمز، وكيف لفت كتابها "القارئ العادي" وصارت تقرأ بانتظام يذكرنا بغوتة، والملاحظات التي خلفتها حول قراءتها تملأ لوحدها نحو ثلاثين مجلدًا.
أما الترفع المبالغ فيه لبعض الكتاب عن الصحافة فلا يمكن تفسيره بأكثر من ضعف أدواتهم في تقديم المادة الصحافية بتقنية مقنعة للقارئ وخالية من الاستطرادات الفارغة وغير المهمة، وهذا التفسير يساعدنا في عرض أمثلة مهمة عن صحافيين نجحوا في كتابة أدب متميز، بينما نجد عددا أقل منهم بكثير من الأدباء الذين أقنعوا القارئ بإنجازاتهم الصحافية.
وفي فصل مواقع التواصل لا يتوقف المؤلف عن النظر بازدراء لإمبراطورية فيسبوك ويصفها بأنها أكبر دولة في التاريخ عندما يسكنها أكثر من 3 مليارات شخص، يؤثرون على قيم وسلوك المجتمعات مثلما يهددون الحكومات.
بينما يعبر عن أمله أن تستغل التلفزيونات في العالم العربي العصر الذهبي للتلفزيون وتقديم محتوى يرقى بالذائقة البصرية، منتقدا بشدة ضحالة الأفكار واللغة الركيكة التي تتميز بها المحطات العربية.
وفي النهاية هذا الكتاب الذي يتجول فيه كرم نعمة في سوق الصحافة المريضة يتبضع الكثير، لكنه لا يقترح إلا القليل من العلاج لتلك السوق. مع ذلك يبدو من الضروري مطالعته لمن يريد أن يعرف ماذا حدث للصحافة منذ أن افتتح غوغل نوافذه وصار سكان هذا العالم مدمنين على منصاتهم الشخصية بينما لا أحد يسأل عن الجريدة الورقية فتراجعت متعة قراءتها مع قهوة الصباح.
عيسى القصابي