كتاب انهيار برج بابل

تأليف : إياد حرفوش

النوعية : روايات

كتاب انهيار برج بابل بقلم إياد حرفوش..ظلام مطبق على مرمى البصر. تعتاد عيناي الظلمة قليلًا فأجدني منفردًا وسط سهل مترامي الأطراف. ليس صحراويًا خالصًا، ولكن تلتقي فيه تربة سوداء خصبة بحافة صحراء قاحلة. ولكن.. كيف عرفت ذلك؟ بحدثي فقط؟ لست أدري. يا لها من ليلة حالكة الظلمة! تبددت في ظلمتها خيوط نور متسللة من هلال قارب المحاق. أستنشق بالكاد رائحة أرض طينية خصبة عامرة بطمي النهر، فلا أكاد أملأ منها صدري حتى تبددها هبات ريح تأتي من جهة الصحراء، حاملة مع هجيرها حبات رمل تلسع وجهي وذراعي.

لماذا أشعر في قلبي ثقلًا وفي نفسي اكتئابًا؟ ربما تزعجني رؤية رمال الصحراء وهي تزحف على الخصب والنماء، فزحف الصحراء على الأرض الخضراء يذكرني دومًا بمأساة الوطن، تلك التي بدأت في سبعينات القرن الماضي ولم تنته حتى اليوم، حين زحفت الصحراء برملها الضنين على وادي النيل الخصيب، فبددت حضارة النماء بثقافة الفناء.
تعتاد عيناي ظلمة الليل أكثر فأرى ما يجعل قشعريرة تسري من رأسي لأخمص قدمي، فالسهل المترامي أمام عيني كأنه شهد في صفحة النهار معركة ضارية. معركة ليست من زماننا! ففوق سمرة الطين التي وخطتها صفرة الرمال تناثرت جثث القتلى على مرمى البصر فضلًا عن جثث لخيل وجمال، يتخللها جميعًا حطام سيوف وهشيم رماح لوثها الدم، فقط حطام، فبعد معارك ذلك الزمان، كان المنتصر يرث ما كان صالحًا من السلاح، ولا يترك بين الصرعى غير سيف مكسور أو رمح ناصل. والقتلى في كل حال أكثر خلق الله جنوحا للسلم فلا حاجة بهم للسلاح ما صلح منه وما تحطم، فلا يعرف قيمة الحياة وروعة السلام أكثر ممن فقدها بنزوة سيف أو نزق سهم. الآن تتسلل لأنفي رائحة ثقيلة مميزة، رائحة الجيف البشرية، حين يتحول ابن آدم الذي تغذى على الطبيعة زمنا إلى وجبة لهذه الطبيعة نفسها، دورة الحي من الميت والميت من الحي اللا-نهائية التي أسس عليها الكون.
ميزت مركز معركة النهار بكثافة الجثث المكدسة فيه، فاقتربت منه بخطوات زادت سرعتها، أشعر بخفة في خطاي، حتى شعرت كأني أقطع عدة أمتار بكل خطوة كأني أطير في الهواء! فهل يعني هذا أني في منام؟ هذا شعور لم آلفه في غير النوم. أتوقف عن سيري وقد خيل إلي أني أرى حركة بين الجثث، بل هناك حركة بالفعل، نسر جائع ينهش بطن فرس مبقور، لعله أول دفقة من بركان جوارح، ولعل الوليمة البشرية المضمخة بصلصة الدماء تمسي عشاء سائغا لسربه الذي طال جوعه في هذا القفر، وهكذا مصائب قوم عند قوم فوائد، وجثث قوم لقوم طعام، أليست النسور أمة مثلنا تسبح ربها؟ فلعلها حين تلحق بأولها تحمد الله على الرزق الوفير، ولعلها لو اشتد بها الجوع ذات يوم تدعو الله تضرعا لترزق بمذبحة يهلك فيها ألوف البشر. ولم العجب؟ فكم من خطيب خصص دعاء ختام الخطبة يوم جمعة لاستنزال الويل والثبور ومصائب الدهور على أمريكا وأوروبا وكل الدنيا حتى تعود لنا نحن الكسالى ريادتنا بمعجزة دامية.
حارت عيناي بين التحقيق في مشهد الموت الذي يحيط بي من كل حدب وصوب وبين الهروب ببصري إلى سواد السماء ونجومها المنثورة فيه، يجذبني فضولي التاريخي للتفرس في آثار المعركة فيطردني نفوري من مشهد الجثث المكدسة بعضها فوق بعض، وياله من مشهد، فأمامي بهذا السهل يرقد ما لا يقل عن ألفي قتيل، بل لعلهم ثلاثة آلاف، فظلمة المحاق تحجب عني الكثير، ثلاثة آلاف قتيل! قد يبدو الرقم عاديا حين نقرأه في كتب التاريخ، ولكن حين نقف بين القتلى وتقتحم أعيننا أشلاؤهم المنثورة، ويزكم أنوفنا عطن جثثهم الآخذة في الترمم، يختلف الأمر تمام الاختلاف.
أتأمل الوجوه التي فارقتها الحياة فأتخيل آلاف الأرامل بغير رفيق، آلاف البيوت بغير رب، وآلاف الصبية بغير أب، أن نقرأ التاريخ شيء، وأن نعيشه شيء آخر تماما. في النهاية ينتصر فضولي التاريخي فأمضي مواصلا جولتي بين الجثث المنثورة كالركام، لأرى أغلب من سحقتهم المعركة شباب في مقتبل العمر. وهكذا الحال دوماً، حرس الماضي من الشيوخ يديرون رحى الحروب فلا تطحن إلا زهور المستقبل من الشباب، لكني ألاحظ ظاهرة أخرى في هؤلاء الفتية الذين حصدهم الموت صباح اليوم، أغلبهم، أو ربما كلهم يشتركون في سمتين، رؤوس حليقة، ولحى شعثاء طليقة كأنهم رهبان أو كهان! وبعضهم يستر رمته قميص قصير لم يكن مما يُلبَس للحرب في ذلك الزمان، لكن هذه سمات.. هل هم من أحسب؟ هل هم الخوارج ؟ أم أن انشغالي بهؤلاء يدفعني لتأويل المشهد بغير ما يحتمل؟

شارك الكتاب مع اصدقائك