كتاب تعظيم فرض الجمعة بين الأداء والإجزاء تأليف على مرسى مرسى .. مع تكرار ظاهرة توافُـق عيدى الفطر أو الأضحى مع يوم الجمُعة فى كثير من الأزمان يكثر اللَّغـط حول أداء الصَّلاتين فيه، ويغيب الفقه الصَّحيح عن التَّـعامل مع هذا الأمر بما يتوافق وهدى السـُّنـَّة الحانية، وعندما يبحث أهل العلم فى هذه المسألة يعرضون لأقوال الأئمَّة وتحديد موضع الخلاف فيها وهو ما يُسمَّى بتحرير محلِّ النـِّزاع، ثم بيان سبب الخلاف وذكر أدلَّـة كلِّ فريق وبيان ما يردُّ على كلِّ دليل ثمَّ تحديد القول الرَّاجح وبيان سبب التَّرجيح، ولا شك أن عرض آراء العُلماء فى هذه المسألة والتعرُّف على الأدلَّـة التى استندوا إليها يقف بالمسلم أمام الحقيقة المُبتغاة من صحيح الدِّين دون تعصُّب لحُكم أو قول أو رأى، ومـمَّا سبق عرضه فى القسم الأوَّل من الكتاب يتبـيَّن للقـارئ أنَّ انتشار الأحاديث الضَّعيفـة والموضوعـة أدَّى إلى مفاسد كثيرة، منها ما هو من الأمور الاعتقاديـَّة الغيبيَّـة، ومنها ما هو من الأمور التَّشريعية المُتَّصلـة بأركان الدِّين القويم، وقد اقتضت حكمة العليم الخبير أن لا يدع هذه الأحاديث التى اختلقها المغرضُون لغايات شتَّى تسرى بين المسلمين، دون أن يـُقيِّض لها من يكشف القنـاع عن حقيقتها، ويـُبيِّن للنَّـاس أمرها، أولئك هم أئمَّـة الحديث الشَّريف وحاملو ألويــــة السُّنَّة النَّبويَّة العليَّـة الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: [نَـضَّرَ اللهُ امْـرَأً سَمِـعَ مَقَالَتِى فــَوَعَاهَا وَحَفِظـَهَا وَبَـلَّغَــهَا، فَـرُبَّ حَا مِلُ فـَقْــهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفـْقَــهُ مِنْــهُ]. من أجـل ذلــك قـام أئمَّـةُ أهل هذا العلم ببيان حـال أكثر الأحاديث من صحَّـة أو ضعف أو وضع، وأصَّلوا لـهذه المهمَّـة أُصـولًا متينـة، وقعَّدوا لدراستها قواعد علميـَّة رصينة، مَنْ أتقنها وتـضلَّع بمعرفتها أمكنه أن يعلم درجة الصَّحيح من الضَّعيف، ولذلك أوردنـا فى أوَّل القسم التَّـالى من هذا الكتاب [عـدَّة ملفَّات] اهتمَّت بالتَّعريف بأحكام السُّـنَّـة وهديهَـا والتى منــها ما يتضمَّن: (أوَّلا) - مقاصد السُّنـَّـة النَّبويـَّة فى القُرآن الكريم وأنَّهـا الإسلام كلُّه، ومنها السُّنن القوليَّـة والفعليَّــة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأحكام المُتعلِّقـة بكلٍّ من السُّنن التــَّقريريـَّــة وسُـــنن العادة والعبـادة، ومفهوم السُّـنَّـة عنــد الصَّحابـة وسلفهم الصَّالح، وكـذلك التَّعريف بالحديث النَّـبوى عنـد الإطلاق وأنَّـه ينـصرف إلى مـا حُدِّث بـه عن النَّبى صلى الله عليه وسلم بعـد النُّبــوَّة من قـولـه وفعلـه وإقـراره، وعلى ذلـك ثبـتت سُـنَّـتـه صلى الله عليه وسلم من هذه الوجوه الثـَّلاثـة [فما قال إن كان خبــرًا وجب تصديقه بــه، وإن كان تشريعًـا إيجـابـًـا أو تحريمًـا أو إبـاحـة وجـب اتِّباعــه فيـه انـقيادا وتسليمـا]. لذلـك كانت السُّنـَّة النَّبويـَّة المصدر الثـَّانى للتَّشريع، كمـا كان لـها الدَّور الكبير فى نقل حقائـق الإسلام العظيم للنَّاس كافَّـة، فهى تـُؤكِّـد ما ورد فى كتاب الله تعالى، وتـُقيِّد ما ورد مُطلقًـا فيه، وتُخصِّص مـا ورد عامـًّا، وتبسُط ما ورد مُختصرًا، وتـُبيـِّن ما ورد مُشكلًا، بـل وتشرح القُرآنَ شرحًـا نيِّـرًا مُستفيضًا واضحًـا، فليس هنـاك من يفهم القُرآن ويُدركُ معـانيـه إدراكًا جيـِّدًا ويفهم أسراره وخصائصه مثـل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أُوتِىَ جوامع الكَلِم، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة النُّعمان [لَوْلَا السُّنـَّـةُ مَا فَهِمَ مِنَّـا أَحَدٌ الْقُرْآنَ]. وكأنَّ الله تعالى يقول: اليوم أكمَلتُ لكم الدِّينَ بكتابى الذى حَفِظْتُــهُ، وأتممتُ عليكم نعمتى بهدْى رسولى الـذى أرسـلتُــهُ. (ثانيًـا) - بيـان مراحـــل تـدويـن السُّـنَّـة النَّبـويـَّـة وكتابــة الحديث زمن البعـثـــة، وكــذلـك تدوينـه وقت الخــلافــــة الرَّاشدة، وما يُشير إلى أهميَّـة التَّـأصيل العلمى لحــُـجِّـيـَّــــة السُّـنَّـة والتَّعــريف بها وأدلَّـة هـذه الحُـجِّـيـَّــة من القُرآن الكريم، وكذلك أدلَّـة حُجِّيـتـها من الهدى النَّبـوى الرَّاشد، وإجمـاع المسلمين على أنَّ السُّـنَّـة الثَّـابتـة حُجَّــة شـرعيـــَّـة ودليلها عصمة النَّبى صلى الله عليه وسلم من جميع ما يخلُّ بتبليغ الرِّسالة، وأنَّ السُّـنَّـة قَاضِيـَـةٌ عَلَى الْقُـرْآنِ الكريم وَلَيْسَ الْقُـرْآنُ بِـقَاضٍ عَلَى السُّـنَّــة، ولذلـك كان من أهمِّ نتائج تدوين السُّـنَّـة: (1) - استمرار عمليَّة جمع وتدويـن الحديث وتصنيفـه وترتيـبه حتَّى نهايـة الـقرن الخـامس الهجرى، ثمَّ انتقل إلى مرحلـة أُخرى وهى مرحلـة [نقـد الحديث] تصحيحًا وتضعيفًـا، و[نقـد رجـالـه] تجريحًـا وتعديلًا، وتنـاول المتن شرحًا وانتخابًا لـما جمعه الأَوَّلون من مُـؤلَّفاتٍ فى القُرون الخمسة الأُولى، فجمعوا شـتات الأقوال النـَّقدية حول الحديث المروى عند الأوَّلين من تعليل للمتن وتجريح وتعديل للرُّواة ووصل وإرسال وانقطاع للسَّنـد، حتَّـى أكثروا من كتب مُصطلح الحديث التى رتَّبــوا فيها الأحاديث وبـوَّبـوها تبـويبـًـا علميًــا. (2) - التَّركيز على تدوين السُّنـَّة على هيئة كتب مُصنـَّفة، فتنوَّعت المؤلَّفـات حيث تمَّ التَّدوين فى هذه المرحلة على المسانيد، أى الكتب الحديثيـَّـة التى جمعت الأحاديث المرويَّـة عن كلِّ صحابىٍّ على حـدة، كما تمَّ التَّدوين على [الجوامع] وهى الكتب الحديثيـَّة التى تضمَّنت جميع مواضع الفقـه والتـَّفسير وغيرها، كما تمَّ أيضًا التَّدوين على السُّنن وهى [الكتب الحديثيـَّة] التى رتَّبت الأحاديث على حسب أبـوابهـا الفقهيَّة المُعتبرة. (ثالثًـا) - الإشارة إلى أنَّ أحـكام الـدِّين لا تـُبنى على الضَّعيف من الحديث كما لا يُعتمـد عليه فى إثـبات حُـكم من أحكام الشَّـرع الحنيـف، ولا يقـوم به تحليـلٌ أو تحريمٌ ولا يتحــقَّـق بــه واجـبٌ أو سُــــنـــَّـة، وأنَّ النَّـهـى الوارد عن روايـة الضُّعـفاء نهــى قــاطعٌ بـإجـمـاع، وأنَّ جُهـود العُـلماء فى مُقـاومـة حـركـة الوضـع مُستمرَّة لا تتوقَّف بحال، وأنَّـه ليس أخطر على الدِّين من الرِّوايات الموضوعة والأحاديث المكذوبـة، وإنَّ من شرِّ الأمور المُحدثـة البدعـة فى الدِّين ومن ابتدع فـقـد شرَّع من قوله صلى الله عليه وسلم [فَإِنَّ كُلَّ مُحْـدَثَــةٍ بِدْعَـةٌ، وَكُلَّ بِـدْعَـةٍ ضَلَالَــةٌ]. ولا شكَّ أنَّ من أكبر أساليب الكيد والمكر للإسلام وأهله، وأكبر أبواب الضَّلال والشَّرِّ انتحـال حديث النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم واختلاقـه، خاصَّة إذا كان موضوع هذا الانتحـال يتعلَّقُ بمسائل العقيدة وأُصول الدِّين، وذلـك أنَّ قول النَّبـىِّ صلى الله عليه وسلم تشريع ومـا يخبر بـه عـقيدة يجب الإيمان بها. ولـذلـك قال صلى الله عليه وسلم [إِنَّ كَذِبًـا علـىَّ لَـيْـسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذِبَ عَلىَّ مُتَـعَمِّدًا فَـلْيَتَــبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النـَّارِ]. وهـو حديثٌ مُتـواتـرٌ جــاء عن أكثـر من سـتِّين صحابيًّا، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدة وشريعة وتصديقه واجب والعمل بــه فـرضٌ لازم الاتِّـبـاع. (رابعًـا) - أنَّ خير العبادة الفقـه وأنَّ من حقِّ المُسلم على المُسلم أن يُعلِّم أخـاه، ذلك لأنَّ العلم بالتَّعلُّم والفقـه بالتََّفـقُّـه ومن يُرد اللهُ بـه خيرًا يُفَقِّهـْهُ فى الدِّين، وأنَّ الحُكم الشَّرعى كما يُعرِّفـه الأُصوليُّون هو خطاب الله تعالى المُتعلِّق بأفعال المُكلَّفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا، بمعنى: ما اقتضى الشَّرع فعله أو تركه أو التَّخيير بين الفعل والتـَّرك، كما أنَّ السُّؤال نصف العلم فمن سأل مُستفهمًا راغبـًا فى تحصيلـه نـافيًا الجهل عن نـفـسه، فلا بأس بــه فشفاءُ العىِّ السُّؤال، ومن ســأل مُتـعـنِّـتًـا غير مُتـفـقِّـه ولا مُتعلِّم فهو الـذى لا يحِـلُّ قـليـلُ سُـؤالـه ولا كثيـره، ولو تدبَّر العَالِمُ فى مُرور ساعاته ماذا كفاهُ العلم من الذُّلِّ بتسلُّط الجُهَّال ومن الهـمِّ بمغيب الحقائق عنـه، ومن الغبطة بما قـد بـان لـه وجهه من الأُمور الخفيَّـة عن غيره، لـزاد حمـدًا لله عزَّ وجـلَّ وغبطة بما لـديـه من العلم النَّـافع ورغبـة فى المزيـد منــه. (خامسًا) - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة المُختـارة للمُؤمنين من ربِّ العالمين، وبــذلــك يتحـقَّق الاقـتــداء بالمثـال الذى يُحـتذَى بـه فى أقـوالـه وأفعـالـه وتصرُّفـاتـه، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قُدوة فى المحافظـة على حُسن العهد، وقُدوة فى التَّواضع، وقُدوة فى الشَّجاعـة والإقدام، وقُـدوة فى الجـود والكرم، وقـُدوة فى الخشية والخوف من الله تعالى، وقُـدوة فى الزُّهد فى الدُّنيا والتَّنزُّه عن مكاسبها، وقــُدوة فى الثَّبـات على المبـدأ مع اليقين بوعد الله، وقُدوة فى الصَّبر على النَّاس والعفو عن المسىء، وقُـدوة فى الإنـابـة إلى الله تعالى، وقُـدوة فى العبادة والطَّاعـة، وقُدوة فى البـذل والصَّدَقة والعطاء، تلكم هى السِّيرة العطرة لنبـيِّـكم صلى الله عليه وسلم والتى تزيـَّن الدَّهرُ بها فـأضاءت العقـولَ والقلوبَ ولـم يمــرَّ على تــاريخ البشريـَّة مثلها بحـال من الأحوال، ودلالـة ذلـك قول الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سائلين المولى عزَّ وجل أن يبصرنا بحقائق ديننا وهو سُبحانه المستعان.