اتفق العلماء والمُحدثون من أهل اللغة والأدب في بلاد العرب، وكذلك العلماء من مُختصيها في غير بلاد العرب، على أن كتاب "الأغاني" الذي ألفه أبو الفرج الأصفهاني، واحد من أعظم ما أنتجته القريحة العربية القديمة في مجال الأدب، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق؛ حتى إن أعلامًا من رجال العرب قالوا إنهم استغنوا به عن سائر الكتب والمخطوطات المحفوظة في خزاناتهم، وكانت تُعد بمئات الآلاف.
ولا غضاضة في أن يُصدق المرء ما قالوه، إذا قرأ محتوى "الأغاني"، ولم يتوقف عند العنوان، فيتوهم أن الكتاب اقتصر على ذِكر الغناء وأهله؛ فقارئ محتواه يعرف أيَّ مساحات شاسعة من تاريخ أمة العرب، وآدابها، قد اطلع عليها بمطالعته إياه، لأن أبا الفرج لم يلزم حدود الفكرة الرئيسة للكتاب، بل مثله مثل معظم رواة تلك العصور، ساح مع ما فاضت به قدرته الجبارة كراوية فذ.
أما أنا فلم أخفف من أنواع النغم والإيقاعات فقط، بل حذفتها جميعًا، وكذلك فعلت بالأسانيد، وبالأخبار المشتركة، بل زدتُ بحذف جميع الأخبار غير المُتصلة بموضوع الكتاب الأساسي، وهو "الأغاني"، فلم أبقي على تلك الأخبار إذا كانت موجودة بانبساط في الكتب التاريخية المختصة بها؟ لا يتميّز الكتاب بذكرها، بل ينتفخ ويثقل، فيُمَل؛ وتخلصت من جميع الأشعار التي لم تعد مفهومة لقارئ هذا العصر، بل أشبه ما تكون بالكتابات الهيروغليفية، أو الطلسمات السحرية، إما لمفرداتها العتيقة، أو لأجوائها السحيقة، وتخيّرت أشعارًا قليلة منظومة، رائقة عذبة ومفهومة، وإن كانت كُتبت قبل مئات السنين، لا تزال تتنفس ..