وبعد ، فقد كان علي (ع) العمود الفقري في معارك النبي (ص) وانتصاراته ، وعندما أبعدوه عن الخلافة واعتزل ، فرحت القبائل الطامعة في السلطة ، وقرر تحالفهم بقيادة المتنبئ طليحة احتلال عاصمة النبي (ص) ، فغزا المدينة بعشرين ألف مقاتل بعد وفاة النبي (ص) بستين يوماً !
هنا نهض علي (ع) وهو الأسد المجروح ، دفاعاً عن الإسلام وأهله ، وإن كان لايعترف بنظام الحكم ، فوضع خطة لدفع الهجوم ، ورتب حراسة المدينة ، وفاجأ المهاجمين ، فقتل قائدهم «حِبال» وغيره من قادتهم ، وردهم خائبين مهزومين . ثم طاردهم (ع) مع المسلمين الى معسكرهم في ذي القَصَّة (أي الجَصة) على بعد عشرين كيلو متراً عن المدينة ، وشجَّع أبا بكر لحرب المتنبئين ، وأولهم طليحة في حائل ، ثم مسيلمة في اليمامة ، وهي مدينة الرياض الفعلية .
قال (ع) في رسالته الى أهل مصر ، لما ولى عليهم مالك الأشتر:
« أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً (ص) نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى (ص) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يلقى في روعي ولايخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل بيته ، ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد (ص) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب . فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه » . (نهج البلاغة:3/118، والغارات للثقفي:1/307، والامامة والسياسة:1/133 ، ومصادر أخرى).
وتعبير: ما كان يُلقى في روعي، تعبير مجازي للأمر الغريب المفاجئ . وتنهنه: سكن.
وأخذ أبو بكر يستشير الإمام (ع) في تدبير الحرب ضد القبائل الطامعة في دولة الإسلام ، فأرسل عليٌّ (ع) تلاميذه الفرسان ، وأولهم عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه ، لتوعية القبائل ، ومقاومة طليحة .
ثم أرسل (ع) نخبة من أصحابه لحرب مسيلمة ، كعمار بن ياسر، وأبي دجانة ، وثابت بن قيس ، رضي الله عنهم ، فنهضوا في تلك الأحداث والمعارك ، وحققوا النصر للإسلام ، وهزموا المرتدين .
ثم استشاره أبو بكر في غزو الروم: «قال أبو بكر: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك ، أو بعثت إليهم ، نُصرت عليهم إن شاء الله . فقال: بشرك الله بخير ». (تاريخ دمشق:2/64).
وقد أثرت نهضة علي (ع) في نفس أبي بكر ، فكان يعتذر اليه عن تقدمه عليه في الخلافة ، ويؤكد له بأنه سيعيدها اليه بعد وفاته !
قال (ع) كما في الخصال للصدوق/343: « فإن القائم بعد النبي (ص) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره فيما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي، وسألني تحليله ، فكنت أقول: تنقضي أيامه ، ثم يرجع إليَّ حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً ، من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً ، في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل . وجماعةٌ من خواص أصحاب محمد (ص) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله (ص) ولكتابه ودينه ، يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسراً ، فيدعوني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلى بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول رويداً وصبراً لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي (ص) وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل ، فقال كل قوم: منا أمير ، وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر!
فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه ، صير الأمر بعده لصاحبه ، فكانت هذه أخت أختها ، ومحلها مني مثل محلها ».
وبعد وفاة أبي بكر كان عمر يشاور الإمام (ع) في الحرب ، فكان يدبر أمورها ، ويختار لها القادة والفرسان ، ويحقق النصر للمسلمين.
وعندما جمع الفرس جيشاً من مئة وخمسين ألف جندي لشن هجوم كاسح على المدينة ، بعث عمار بن ياسر وكان والي الكوفة ، رسالة الى عمر بن الخطاب يخبره ، فخاف عمر وأخذته الرعدة ، واستشار علياً (ع) ، فطمأنه وأعطاه الخطة ، واختار لها قائدين هما النعمان بن مقرن وحذيفة رضي الله عنهما ، فاستبشر عمر وشكره ، وأطلق يده في تدبير معركة نهاوند ، وهي أكبر معركة مع الفرس ، فحقق فيها النصر .
وكذلك في معركة اليرموك بعث علي (ع) مالك الأشتر، وعمرو بن معدي كرب، وهاشم المرقال ، ومجموعة أبطال ، فقطفوا النصر كما أخبر (ع) .
وكذلك في فتح مصر، فقد فتحت صلحاً بدون أي معركة ، وشارك في فتحها عدد من كبار الصحابة من تلاميذ علي (ع) كعبادة بن الصامت ، وأبي ذر الغفاري ، ومالك الأشتر ، والمقداد بن عمرو .
ثم عندما هاجم الروم مصر في زمن عثمان ، قاد تلميذا علي (ع) :محمد بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة، معركة ذات الصواري في دفع هجوم الروم عنها
وقد نسبت السلطة هذه الفتوح لقادتها ، كخالد بن الوليد ، وعمرو العاص ، وأبي موسى الأشعري ، والخلفاء من ورائهم ، مع أن الفضل فيها نظرياً وميدانياً لعلي (ع) وتلاميذه وفرسانه .
لذلك كان علي (ع) يشكو قريشاً فيقول ، كما في شرح النهج:20/298:
« اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم أضمروا لرسولك (ص) ضروباً من الشر والغدر فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبةُ بي والدائرةُ عليَّ...ولولا أن قريشاً جعلت إسمه (ص) ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة لما عَبَدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدَّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً !
ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرَتْ بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سَمِجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ماكان مضطرباً ، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا !
ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خَمِل ذكرُه ، وخَبَتْ نارُه ، وانقطع صوته وصِيتُه ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لايعرف »!
يقول بذلك (ع) إنه هو الذي رد هجوم المرتدين عن المدينة ، ودفع الخليفة الى حروب الردة ، والى هذه الفتوح ، ودبر إدارتها ، وهيأ أبطالها ، لكن إعلام السلطة نسبها الى الخليفة ، ومن عيَّنهم من قادتها الرسميين .
ومن الواضح أن ذلك لايعني مسؤولية الإمام (ع) عن المظالم التي رافقت الفتوحات ، وصدرت من قادة وولاةٍ لم يعينهم .
لذلك كنا بحاجة الى بحث حروب الردة ، وبيان دور أمير المؤمنين (ع) فيها وهو مدخل لدراسة الفتوحات الإسلامية وبيان دوره (ع) وتلاميذه فيها.
وستجد في هذا البحث أن المحدثين أكثر إعمالاً لأهوائهم من المؤرخين ، وأن حروب الردة والفتوحات تحتاج الى قراءة جديدة ، لكشف واقعها .
كتبه: علي الكَوْراني العاملي
قم المشرفة في الثاني من جمادى الثانية 1432
كتاب قراءة جديدة لحروب الردة تأليف علي الكوراني العاملي
كتاب قراءة جديدة لحروب الردة بقلم علي الكوراني العاملي..
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام ، على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، لاسيما أولهم عليٍّ أمير المؤمنين ، بطل الإسلام ، وعضد رسول الله (ص) ، وقامع أعدائه ، ومفرج الكرب عن وجهه ، وفاتح الحصون ، وحافظ الإسلام وأمته من بعده ، وقائد الغر المحجلين الى جنات النعيم .