كتاب مثلث الدائرة للمؤلف سعدي يوسف من الغريب أنني كنت أشعر بهدوء كامل. كان كل ما في الغرفة لا يعنيني. كأن الغرفة غير موجودة، وكأن الشخصين الموجودين الذين فيهما ليسا ماثلين قريبين مني إلى هذا الحدّ الخطر. كنت وأنا موثق اليدين، معصوب العينين، أشعر أنني في مكان آخر تماماً. مكان كان مألوفاً لديّ، لكن من أي زمن؟ أهو زمن الطفولة؟
زمن ما قبل الطفولة؟ المشاهد عجيبة، متبدلة، لا بسرعة، إنما مثل غيمة تدفعها ريح خفيفة. على شفتي طعم؟ وتتصاعد رائحة خفيفة تستغرقني. تفوح منتشرة مثل ضباب الفجر عند ضفة النهر. أستيقظ على صوت المحقق، وهو يأمر الحارس بفك العصابة عن عينيّ. الحارس يفك العصابة عن عينين. الحارس يفك العصابة. أرمش عدة رمشات، كأنني أريد أن أتكد من المكان الذي أنا فيه. أن أتأكد من أن الغرفة هذه هي حقاً غرفة التحقيق. يستدير المحقق من وراء طاولته، يتناول الفدّارة المعلقة على الحائط ويواجهني: اسمع، جيداً. هذه فرصتك الأخيرة. هل ستتعاون معنا؟ لا أريد خطباً أجب بنعم أو لا"... لم أحرك شفتي. وتطلع الكلمات من قاع بئر: "اعصب عينيه". كلمات قاع البئر، تعود: هات لي شاجوراً..." الصوت يقترب، ينخسني المحقق، ربما بأخمص الفدارة: "سأنفذ فيك حكم الإعدام، الآن. جثتك سنتخلص منها بألف طريقة. نرميها للكلاب أو تحت عجلات القطار… لن يعرف أحد ظروف إعدامك. لن يعرف أحد أنني أعدمتك في هذه الغرفة. سأقول أنك حاولت الهروب، وأن النار أطلقت عليك في محاولتك الهروب. ستكون جثتك مرمية في الطريق، مثل فطيسة على مبعدة أمتار من باب النادي..".في "مثلث الدائرة" صور لعراق الأربعين. انقلاب وضباط متهمون يلقون مصيراً مأساوياً تطيح بكل واحد منهم الأقدار وينفون من بلدهم ويتشتتون في بلاد الله الواسعة، يلتقون حيناً، يبتعدون عن بعضهم أحياناً والغصة في كل الأحايين تملأ قلوبهم والدموع تملأ محاجرهم، يعالج الروائي تجربة هؤلاء بحنكة، مقدماً للقارئ واقعاً كان لا بد له من الاقتراب من تفاصيله أكثر، ليعرف ماذا تصنع الانتماءات، بشكل عام، بالمواطن في عالمنا.