كتاب مزامير يوميّة بقلم عبّاس داخل حسن....لا نستطيع أن ندخل إلى عوالم المجموعة القصصيّة" مزامير يوميّة"للأديب العراقيّ عبّاس داخل حسن إلاّ من مساحة الإنسانيّة الطّاغية المثقلة بحياة تعجّ بتفاصيل الألم والعجز والخيبة والانكسارات، وتمتح من ذاكرة تفيض بالحسرة على أزمان مسروقة ووطن منهوب على أيدي اللّصوص، والتفجّع من دروب ملعونة سرقته من وطنه وشعبه وذكرياته، كما سرقت الأزمان الجميلة من وطنه العراق، ولفظته هناك بعيداً في منافي الأرض حيث البرد والحزن والوحدة والحنين إلى وطن بعيد، وأزمان لا تعود. أخال أنّ عبّاس داخل حسن قد اختار المزامير لتكون جزءاً من عنوان مجموعته كي يكسر متوقّع القداسة المتوهّم من الاسم، إذ إنّه يصدمنا من واقع دنس، وأفعال نجسة، بدل أن نعيش في جوّ مأمول من الطّهر والنّقاء، وهو يأخذ من تكراريّة الفعل المزموريّ -إنْ جاز التّعبير- كي يحيلنا إلى تراكميّة واستمراريّة أثر هذه التّرنيمات اليوميّة التي تمثّل مقطعاً واحداّ لا غير من الحياة، وهو مقطع خيبة الألم وانكسار الرّوح وألم القلب؛ فهذه المزامير تتكرّر جبراً في حياتنا لصالح شيء واحد لا غير، وهو خرطنا قهراً وقسراً في ألمنا وإكراهاتنا وعوالمنا المستلبة. لقد بدأ عباس داخل حسن المزامير بعزف ترنيمات حزنه، واستدعاء مفردات ذاكرته بما فيها من أشخاص وأماكن وأفعال، وهي جميعها ترتبط مباشرة أو ترميزاً بوطنه العراق الذي يعيش فيه، وإن يعيش في مكان بعيد عنه. هو ينطلق من ذاكرة المكان والزّمان التي تحتلّ وجدانه لينقلنا بسرعة إلى أحزان وطنه ومعاناة شعبه، فهو يقدّم قصصه في هذه المجموعة لاعباً على مفردة الوطن الإنسان والإنسان الوطن، فعندما يتحدّث عن نفسه، فهو يروي قصص الوطن الحزين، وعندما يتحدّث عن الوطن الحزين، فهو يعني بذلك كلّ إنسان في وطنه. هو يراوح في مجموعته بين القصّة القصيرة جدّاً والقصّة الومضة، ويطعّم فسيفساء هذا العمل بأحجار فنيّة مختلفة لبناء فضاءه السّرديّ المفتوح على تأويلات كثيرة ومساحات شاسعة منهكة من التوقّعات؛ فهو يستدعي المفارقة محركاً للحدث، وشكلاً للقفلة السّرديّة، كما أنّه ينطلق من توظيف الموروث السّرديّ في قصصه، وهذا الموروث السّرديّ قد يكون وليد التّاريخ، أو من شذرات القصّ الشّعبيّ أو من فتات التّراث القصصيّ العربيّ، ويجعل من القفلة القصصيّة نقطة مركزيّة لفهم القصّة واكتمال ذروتها، وتفكيك رموزها ورؤاها، كما يستسلم لتيار تداعي الذّكريات والحوار الدّاخليّ المختزل والإغراق في البوح الذي يكون على حساب حجم الحدث في بعض القصص، وهو مدفوع إلى ذلك بقوّة الانفعال الشّخصيّ وظلال المعاناة الذّاتيّة ومحصّلة خبراته الإنسانيّة، إلى جانب أنّه يستعير الشّكل المتوالد في القصص الموروثة المنبثقة من قصّة أمّ أو محوريّة، ليجعل هذا النّمط السّرديّ المتوالد هو تفريعات على حدث واحد وفكرة جامعة، بما يمكن أن نسميّه بوحدة الموضوع في بعض القصص المتوالدة في هذه المجموعة القصصيّة. أيّاً كان المعمار الشّكليّ للسّرد في هذه القصّة، فإنّه ينطلق جميعاً من فلسفة الإضاءة على بعض الوجع، في حين المقصود هو الألم كلّه؛ لذلك عندما يقتطف عباس داخل حسن ثمرة من الألم، فهو يومئ بكلّ تأكيد إلى الشّجرة كلّها، وبذلك هو يتوقّف عن مواقف صغيرة في مساحات حرفيّة قليلة، لكنّه يترك لنا أن نخمّن بحدسنا الخاصّ وبتجاربنا ومعارفنا وخبراتنا وثقافاتنا إلى أيّ مدى يمكن أن نسقط هذه القصص على واقعنا، وإلى أيّ حدّ نعيش في ظلّها. إن فرض سؤال متوقّع نفسه علينا، وألحّ بمعرفة أسباب اختزال العامّ في الخاصّ والكلّ في البعض في هذه المجموعة القصصيّة، فقد تكون الإجابة متمثّلة بصراحة ووضوح في أنّ الألم والوجع والحزن أكبر وأعظم من أن يُحاط بها في سرد ما مهما بلغ وتغوّل وشمل؛ لذلك جاء الاختزال في القصص على حساب الحجم لا على حساب الفكرة أو التّأويل أو الرّؤى أو المرامي. من هذه الخاصّية بالذّات نستطيع أن ندرك أنّ هذه المجموعة القصصيّة هي تجربة إنسانيّة عامّة، حتى وإن لبست لبوس الشّخصيّ والخاصّ والمحدّد في بعض المواضع، فهي تحمل فلسفة تجاوز الألم الشّخصيّ بافتراض أنّ الآخر يتألّم كذلك، وإن تأوّه الإنسان الواحد، هو تأوّه للبشريّة جمعاء بمعنى ما. بذلك نستطيع أن نفهم مغزى الحكمة في هذه المجموعة، فهي مثقلة بثمار الحكمة في جلّ مواضعها، فعبّاس يلتقط الثّمرة، ويضعها في حجر المتلقّي، ويترك له أن يتذوّقها على مهل، ومن يفوته أن يحزر الطَّعم، وأن يميّز الحكمة، وأن يستخلص الفكرة، فهو عندئذ لا يستحقّ هبة السّرد، ولا جدوى من قراءته للمجموعة سوى تحقيق متعة آنيّة محتملة الحدوث، أمّا المغزى الحقيقيّ من القصص فلا يدركه إلاّ من وعى الألم، وجرّب الحزن، وقرأ هذه المجموعة بقلبه ووعيه وضميره ووجدانه؛ فهذه مجموعة قصصيّة تصلح لأن تكون صرخة إنسانيّة وتأوه قلب في إزاء مشهد إنسانيّ مؤلم، وليست حقلاً سرديّاً يقطف المتعة، ويبغي التّسليّة وتزجية الوقت، أو أرضاً حالمة هانئة يقصدها المترفون المتخفّفون من الألم والمعاناة والقهر والكبت. لي أن أزعم أنّ الأديب عبّاس داخل الإنسانيّة باذخ الحضور الإنسانيّ، ألمحي الضّمير، وافر الألم، ولولا هذا الثّالوث الاشتراطيّ لحالته الإبداعيّة في هذه المجموعة القصصيّة لما كانت بهذا الجمال، وهذه الحساسيّة والرّقة والألمحيّة والقدرة على التقاط أصغر المواقف الإنسانيّة للوقوف على بوابة التّجربة الإنسانيّة بتجليّاتها جميعاً؛ فهو يملك بامتياز حالة مفرطة من الحساسيّة والقدرة على الالتقاط التي تجعله مرشّحاً أكثر من غيره للألم والحنين والتوّجع والانكسار والحياة حبّيس ذكرياته، وهذه الحالة هي من تملّكه قدرة استثنائيّة على بناء قصّه من شذرات الألم ومن تشظّي الوجع، وذلك دون أن يسقط في فخّ الذّاتيّة، ودون أن يغفل الإنسانيّة جمعاء في درسه الخاصّ عنها عبر ذاته. لي أن أعلن صراحة وبثقة كاملة أنّني أعيش حالة انسجام لذيذ مع هذه المجموعة القصصيّة التي لا نستطيع أن نقرأها دون التّوافر على رصيد إنسانيّ ووجدانيّ يسمحان لنا بأن ندخل إلى جوّانياتها، ونتماهى مع دواخلها، ونحيل خاصّها إلى عامّ، وعامّها إلى خاصّ، إنّها لعبة الاختفاء في الذّات، والضّياع في الخارج، وبينهما يسكن الأجمل المفقود، وهو الفرح والسّعادة والخير، وعبّاس داخل حسن يصمّم على أن يحلم بالأجمل، وأن يلعن القبح حتى يتجلّى الجمال وافراً أمامه في عالم أرحب للبشريّة بعيداً عن تطاحنها وقبحها ومآلاتها المأساويّة، وحتى يتحقّق الحلم، ويرحل القبح، يظلّ عبّاس في رحلة مع الكلمة والقصّ إلى أن ينتصر الرّفض على الألم، ويقبر الفرح الحزن والانكسار. "مزامير يوميّة" هي إحالة إلى جمعيّة التّجربة الإنسانيّة بكلّ ما فيها من خصوصيّة الفرديّة، هي حالة معيشة يحياها الكثيرون، وهي وجع يوميّ يكابده المكابدون، وهي وثيقة تجريم بحقّ كلّ من أساء إلى الأوطان، وخان ضميره، وضيّع إنسانيته وهويته، إنّها باختصار يوميّات إنسان وافر الألم والبؤس وخيبات الأمل في هذا الكوكب الذي يعجّ بالألم والقبح وترّهات الصدف وتحالفات الشّرّ، هي -اختصار شديد- حلمنا الباقي الأثير بأن تأتي السّعادة مهما طال انتظارها.