كان العرب الاقدمون قد وقفوا من الثقافة الأوروبية وقفة شديدة الشبه بما نقفه اليوم، فكانت أوروبا بالنسبة إليهم يومئذ هي اليونان وثقافتهم، فكان أهم ما اهتموا له أن يلتمسوا لأنفسهم طريقاً "يوفق" بين مضمون الثقافة اليونانية وأحكام الشريعة الإسلامية،
ولو صنعنا نحن اليوم مثل صنيعهم لكان على رأس همومنا عملية "التوفيق" مرة أخرى، لكنها هذه المرة تلتمس الطريق بين "علم" أوروبا الحديثة من جهة، وما يقضي به موروثنا من أحكام أساسية هامة، من جهة أخرى، ولست أريد أن أترك فكرة "التوفيق" تمر دون أن أقول إن التوفيق بين مصدرين لا يعني قط أن نحذف أحدهما ونبقي الآخر، وإنما يعني أن نجد الطريق الثالث الذي يهضم الفكرتين معاً وفي آن واحد.
هذا مثل جيد للمسائل التي هي من أهم هموم المثقفين اليوم، وماذا هناك أمامهم ما هو أهم من رسم الطريق الحضاري الذي نسير عليه في مرحلتنا الراهنة؟ فنحن في ذلك -أولاً- نقتضي أثر الآباء، و-ثانياً- نعالج حالة الضياع التي نعانيها، وإذا شئت فانظر إلى شبابنا في حيرته، لا يدري أيتعصب إلى حد التزمت لما يقال له إنه طبيعة الإسلام، أم يتمرد ليحياكما يقال له إن الشباب في الغرب يحبون؟ هؤلاء وأولئك بيننا قائمون، أحوج ما يحتاجون إليه هو تحليلات من المثقفين تهديهم إلى طريق يجمع الطرفين، لكن المثقفين عن ذلك في صمم، جريا وراء مجادلات سياسية يرون فيها طريقاً أسهل إلى شغل الناس. ألا إن للمثقفين همومهم، أفيتركونها ليعالجوا مسائل في ميدان السياسة، فيهدرون فطرتهم الموهوبة في غير ما أراد لها واهبها أن تنمو وتثمر؟.