رواية حي بقلم مصطفى الشيمي..اختفت الحقول تماما، لم يعد هنالك سوى صحراء تمتد حتى الأفق. السماء مدفونة أسفل الرمال، والشمس متربة. يوجد القليل من الصبار هنا وهناك والكثير من الكثبان الرملية التي ألقتها الرياح بدقة متناهية، كل شيء في الصحراءِ كامل، كل التفاصيل صغيرة ودقيقة كحبات الرمال الصغيرة الذهبية. الصحراء لا ينقصها أو يحدها شيء،أرض واحدة قديمة وأزلية وممتدة حتى الأفق، لا يحدها سماء ولا غاية، كأن الرحلة لا نهاية لها. الجمال تتقدم بإعياء وجوع إلى الأمام. تهمس، ترغو، تصيح، تستغيث بصاحبها، لكن جعفر يجيبها بحزن : "الصبر يا بنيتي، خيرتك منذ البداية؛ الصبر". والرجال لم يكونوا أفضل حالا منها، كانوا جياعًا، وجوهم شاحبة بلا دماء ومتربة بعناءِ السفر، وأجسادهم بدت كأنها تلتصق بروح الصحراء. أما نصر الدين فلم يكن أفضل حالا من الجميع، كان متوهًا وكانت الصحراء تليق بشروده
.
تمنى الرجال أن تلوح بحيرة من بعيد أو بئر. لا، لن تلوحَ. كان جعفر يدرك ذلك وإيزابيلا التي فقدت خرائطها، أما بوصلتها فكانت تشير إليهم. لا يدرك جعفر كيف تاهوا في الصحراءِ فجأة، وهو الدليل الخبير الذي يعرف عدد رمال الصحراء وطرق القوافل والعيون. لا يوجد بئر هنا أو بحيرة. ومن يدري؟ ربما لم يعبر بشري هنا من قبل، وربما يسقطون في فخاخ الرمال المتحركة فتلتهمهم الصحراء الجائعة للأبد. لم يكن أمامهم سوى المضي للأمام على أية حال، فقد تساوت الجهات الأربع. والأفضل- لمن ارتضى السفر- ألا يعود إلى الوراءِ، لكن العطش والجوع قد ازداد بالرجال حتى بدأوا يهلوسون. لم ينظروا مع هذا نحو زاد نصر الدين؛ كانوا بحكم تجربة سابقة يعرفون عاقبة النظر إلى ما لست تملك. لكنهم شعروا في أعماقهم أن سبب ضياعهم في تلك الصحراء هو تلك الرحالة، امرأة تقود قافلة في الصحراءِ؛ فيا للشؤم!. أما يحيى فقد هلوس كثيرًا، كان يرى نصر الدين مقتولا ويرى الخنجر في يده.
دعا الرجال الرحمن الرحيم أن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، وفجأة ظهر أمام قافلتهم قطيع غزلان يجري شاردًا في الصحراءِ. هلل الرجال، وأناخوا جمالهم، وطاردوها لكنها كانت سريعة للغاية فسقط الرجال، الواحد تلو الآخر، فوق وجوههم في الرمال الساخنة. لم يمسكوا بغزال واحد فقط، فما أسوأهم! حتى الغزلان الضعيفة والمريضة والهزيلة والصغيرة والعرجاء تركوها تهرب بعيدًا عنهم. وعندما تحركت القافلة مرة أخرى لم يعرف الرجال إن كان ذلك القطيع قد مر بالفعل من أمامهم وهرب بعيدًا أم أن ذلك محض حلم أو خاطر أو رؤيا راودتهم جميعًا فوق الجمال.
(مقطع من الرواية)
متوفرة في معرض القاهرة للكتاب 2014
..
مصطفى الشيمي
كاتب وروائى شاب حاز عدة جوائز أدبية منها "المركز الخامس في مسابقة كتاب اليوم الأدبية، الدورة الثانية 2010، عن فراشات ملونة (مجموعة قصصية) والمركز الثالث في مسابقة هيئة قصور الثقافة (دورة خيري شلبي 2012) عن عاهرة القمر (مجموعة قصصية). وفاز بالمركز الصثاني في مسابقة المواهب الأدبية 2015 (دورة بهاء طاهر عن مجموعة ليلى والفراشات.