رواية يورو بقلم نذير الزعبي ....لديك قطعة نقدية واحدة. سمِّ عشرة أشياء يُمكنك أن تفعلها بقطعةٍ نقدية واحدةٍ عدا الشراء! هل مررت بسؤالٍ مشابهٍ جعلك تُطرِق طويلاً مفكِّراً بإجابة منطقية؟ تلك الأسئلة التي تجعل الشخص ينظرُ للأشياء من جانبٍ مختلف، وتجعله يدرك قيمة التفاصيل الصغيرة التي نادراً ما نتأملها. هذا بالضبط ما سيجده القارئ في
صفحاتِ "يورو". تنتقل "يورو" بالقارئ إلى عالمٍ تأمّلي شغوفٍ بالتفاصيل الدقيقة، توحي له بأنّ عليه أن ينظر للأشياء من جوانب مواربة، مستخدماً حواسه بالإضافة لعينيه، لأنه قد يرى في الأشياء ما لم يكن قد انتبه لوجوده من قبل. إنّها رواية تطرح العديد من الأسئِلة دون أن تُتبَع بعلامات استفهام واضحة. وكأنَّ الأسئلة تقولُ لك: ابحث عنّي!ماذا يعني أن تكون حرَّاً؟ كيف تولدُ الأحلام؟ كيف يمكن لأحد بأن يحقِّق ذاته؟ هل يملكُ البشر خطواتهم حقاً؟ هل تُغني المعرفةُ عن التجربة التي تولِّد الخبرة؟ إن الإجابات البديهية عن هذه الأسئلة، لن توافق الإجابات "المفاجئة" التي سيخرج بها القارئ بعد قراءته لـ "يورو" التي لم تأتِ كاجتراحٍ لتقنية جديدة تماماً وإنّما هي الأفكار التي سمحت للشخصيات فيها بأن تتنامى لتؤثر وتتأثر في متن سردي لغته الشعرية عالية وما دونها هو ما يقتضيه السرد الروائي وحسب.تدور الأحداث في الحكاية من خلال تسليط الضّوء على قطعة نقدية "يورو" تجوبُ المدنَ متنقلة من جيبٍ لجيب، ومن يدٍ لأخرى، وسيمرّ القارئ من خلالها بحكايات عديدَة تبدُو لوهلةٍ كأنَّها شريط ذكرياتٍ مستعار، حكايات متداخلة وشخصيات عديدة تظهر لمرّة أو اثنتين لتختفي بعد ذلك دون عودَة، تماماً ككلّ الغرباء الذين نصادفهم كلّ يوم، يمرّون سريعاً وقد يتركون أثراً، وقد لا يفعلون، لكن الفرق أنّ "يورو" تعيد القارئ إلى "غربائها" كلَّما عاد بصفحاتها إلى الوراء فقط، دون أن يعرف هل سيلتقي بهم من جديد لو تقدّم صفحتين –مثلاً- أم لا.تُظهِرُ "يورو" العديد من الجوانب التي تصوّر علاقة البشر بالنقود بشكلٍ مختلف، يتعدّى كونها مجرّد وسيلة للشراء. وتظهر –كذلك- العديد من الطبائع البشرية الكامنة في قالب حكائي مشوّق، ولغة أدبية جميلة محكمة، ونصّ يتميَّز بجميع عناصره الأسلوبية: من أفكارٍ مختلفة غير مطروقة وعاطفةٍ يرتفع منسوبها بالنص بشكلٍ ظاهر، وخيالٍ تم توظيفه بشكل جديد يفوق الحدود الإبداعية بكثير، وإيقاعٍ متناغمٍ للانفعالات النفسية ولغة فذّة، بالإضافة إلى سردٍ وبناءٍ روائي متسلسل ومتداخل، يتجه بالحكاية شيئاً فشيئاً ويدفع بها إلى نهاية مهيبة ستترك القارئ مذهولاً.من أجواء الرواية:كانت السُّكنى في منزل "لالا" المطلِّ على جبال رودوبي، أشبهَ بالسُّكنى في معرضٍ تشكيلي، فلوحاتها الزيتية كانت تُزيّن جميعَ جدرانه حتى جدران الحمام والمطبخ. كان منزلاً صغيراً كحقيبتها، لكن الرسومَ والألوانَ على جدرانه كانت تفتح لمن يراها آفاقاً تتجاوزُ حدودَ ذلك المنزل، بل وحدودَ الكون. كان المنزلُ أقرب إلى الكوخ منهُ إلى منزل، فحجمُهُ الصغيرُ وسقفهُ القرميديّ والأشجارُ من حوله والأراضي العشبية التي كانت تحيطُ به لوقوعه على أطراف المدينة، كل هذا أضفى عليه شكلَ الأكواخ الريفية. كان مقسوماً في الطابق الأرضي إلى مرسمٍ صغير وغرفةِ جلوس تضمُّ مطبخاً وحماماً صغيرين، وفي الطابق العلوي كانت غرفةُ النوم ذاتُ السقفِ الهرمي، والنافذة الوحيدة، المطلةِ على الرودوبي.كانت تتحركُ في أرجاءِ منزلها بهدوءٍ وانسيابٍ كرقصة المينيويت، وبنفس ذلك الهدوء كانت ترسمُ وتأكل وتستحم وتقرأ وتستقبلُ أصدقاءها كثيري الصخب، وبنفس ذلك الهدوء.. كانت تعاملني.لم تكن "لالا" سعيدةً طولَ الوقت، فقد كانت تمرُّ بلحظاتِ حزنٍ، لم أعرف سببَه. إذ كان يعصفُ هكذا بلا مقدمات، وكأنها ذكرى حزينة تطرقُ بابَ قلبها بين كل حين. مع امتداد العِشـرةِ بيننا، صرتُ قادراً على تمييزِ حجم حزنِها من سلوكِها؛ فإن كان حزناً ضئيلاً كان جلُّ ما يفعلهُ بها هو مسحُ ابتسامتها العذبة، أما إذا كانت وطأتُهُ ثقيلةً ضمّت يديها تحت أنفها وأغمضت عينيها مستنشقةً بعمق رائحةَ زيت بذرة الكتان التي لم تكن تفارقُ أصابعَها لكثرةِ ما اصطبغت بالألوان الزيتية. كانت رائحةُ الزيتِ تلك تبعثُ الهدوءَ والسكينةَ في نفسها.. ربما بسبب الألفةِ التي نشأت مع السنين بين صدرها وذلك العطر.. أو لأن عطرَ الأشياءِ هو روحُها الحقيقة التي تبعثُ في نفوس من يحبونها الطمأنينة والارتياح