كتاب الأعمال الشعرية : نوري الجراح - الجزء الأول بقلم نوري الجراح.."فرغنا من اللهو بالبرتقالة، وتركناها تسقط وتلتهب. تركنا أختنا الصغيرة تنسُلُ جوربها. دمعتها تتجمد على الخد الضاج. كانت الأصغر، وتركتنا نكبر وظلت هناك. ولما جاء الربيع رأينا النار على الأغصان، اللهب الأزرق، اللهب الأحمر، وبأسرع مما ألفنا كانت الشهب تتوارى. الحذر يرجّع النهار ويسري به في الجسد. الخيال يلمّ، والحلكة توارب ولم يعد في الممر متسع لظلال ولا لبريق الأوراق. تَهَبُ الهواء والأبواب فِضّتها. الحواس وحدها، كانت تبلغ أنحاءها، والذكريات فيض ذائب. النبض ينهر الجسد والخشب يتقبل حرارة الغيبوبة. ولما أزف الوقت رنّ معدن وضوّى في قرارة. كان ذلك شأن الجسد يلمّ السقطة ويوسّع إذ يؤخر ذلك البرق..
رنّ وتكسّر ووزع صورة على الأنحاء. وفي كل مرة كانت نهضة كان العطب ينظر من مكمنه في السرور والأثلام والقنوات... وكل وقوف على هذا المرمى كان مضروباً بنور كامل وعرضة للقنص. ومن ثم لما ذوّب الفلك الثريا قطر الندى من حلكة أعمق وطوّف الأريج. كان السم يتهيأ ليضاهي الجبلّة والبدء ينحل والآسر يتشكل.. وكل وقوف هناك قبل العري كان برهة قبل القناع".
لا تتحقق الكتابة في أبهى حالاتها قبل الوصول إلى هذا الطفل المتواري فينا. وما يتم هذا لكائنات يعوزها نزوع جامح علامته انحياز مطلق ونهائي نحو الحب، واستلهام للجمال هو في حقيقته شوق إلى الحرية. عند هذه التخوم يولد الخطر، ومن صدمة المعاكس والمخالف يتخلق المفارق والمأساوي. ويولد الشاعر الذي في روحه تسري محبتان: محبة الحب كجوهر لا يموت، ومحبة المحبوب كشخص ميت، من ألم الإدراك يتخلق الشعر، ومن علاقات الفاني بالخالد تنسج الموهبة فلكها في شاعر. من فداحة وإشراق، ومن يأس هو كل ما يملكه شكاك، يتخلق الشعر. وما الجمال في شعر شاعر إلا لبوساً، أو نظيراً لتطرف الحركة في الشعور، وعلامته ما يهزّ ويخضّ ويسحر. هنا أيضاً، على هذا الصراط يلتقي الخصمان الكبيران: الحياة والموت. من هذا العلو تهب روح الشاعر وتتنزل كلماته.
تلك هي فلسفة الشاعر نوري الجراح في الشعر والشاعر في الكلمة والمعنى، وتلك فلسفته التي يستطيع القارئ استشفافها من أعماله الشعرية التي جاءت وكأنها كلمات شاعر متفلسف أو ربما فيلسوف شاعر.