من أعقد القضايا التي يواجهها المحللون السياسيون قضية علاقة إدراك الإنسان للواقع المحيط به وبسلوكه ومدى تأثير الإدراك (والوعي والأفكار والرموز) في السلوك الإنساني، وكيف تكون استجابة الإنسان الذي يتم تحدي خريطته الإدراكية،
كما يحدث فى فلسطين المحتله حين يتحدى المنتفضون خريطة الصهاينه الادراكيه التى تستند إلى مجموعه من الاساطير و الديباجات التوراتيه من خلا ل المقاومه أو ما نسميه الحوار المسلح. وهذه القضية لا تختلف كثيراً عن مشكلة الذاتية والموضوعية في العلوم الإنسانية والاجتماعية بل والطبيعية. وهذا الكتاب يحاول أن يلقي بعض الضوء على هذه القضية: هذا هو هدفه، وهذا ما يرمي إلى تحقيقه. وعلى الرغم من أن كل فصول الكتاب تدور حول الصراع العربي الإسرائيلي (وموضوعات أخرى على علاقة به)، فإن هذه مجرد دراسات لحالات، إذ يظل الموضوع الأساسي هو قضية الخريطة الإدراكية وكيف تحدد الرؤية و كيف يمكن تحديها حتى يتم تعديلها أو تقويضها تماماً، وما الحالات التي أتينا بها سوى محاولات مختلفة لتوضيح بعض أبعاد هذه القضية الكلية والمجردة من خلال أمثلة متعينة. يجب أن نعرف تماما أننا نعيش في عالم ليس من صنعنا وهو عالم يؤمن بالحواس الخمس وبكل ما يقاس، ولا يعترف كثيرا بالحق أو الخير أو الجمال . ولذا لابد أن نضغط على الحواس الخمس لدى أعدائنا من خلال الحوار المسلح حتى يعرف الاخر أن العربي الحقيقي ليس مجرد صورة في وجدانه يمكن تناسيها. وإنما قوة واقعية يمكن أن تسبب له خسارة فادحة إن هو تجاهلها أو حاول تهميشها . ولعل هذا هو القصور الاساسي في محاولات التوصل للسلام في اتفاقية كامب ديفيد وغيرها من الاتفاقيات و غيرها من الاتفاقيات. فمهندسو هذه الاتفاقيات يظنون أنهم عن طريق رفع رايات السلام سيغيرون صورة العربي في وعي العالم, و أن هذه الصورة ستفرض دينامية تفرض على الإسرائيلين أن يصلوا إلى اتفاق عادل أو شبه عادل. و لكن الذي حدث عكس ذلك تماما. فبعد الاسابيع الاولى ، وبعد أن يتوقف الحوار المسلح وبعد أن تطوى عدسات التلفزيون الساخنة ، تظهر حسابات القوة الباردة التي تفرض منطقها الثلجي البارد القاسي على الجميع وعلى مائدة المفاوضات . وقد جاء في مجلة نيوزويك الامريكية أنه بعد أن قبل الرئيس السادات بشروط كامب ديفيد كما فرضها بيجين ، طلب تخصيص رقعة ما في القدس ترفع عليها الاعلام العربية حتى تكون" غنيمة أخرى" " يعود ليتباهى بها. وكان تعليق أحد أعضاء الوفد الاسرائيلي هو أن ترفع الاعلام على المقابر العربية "سلام القبور " الذي لم يرده وايزمان لنفسه.أما ديان فقال " السادات يريد بقشيش" أي إنه نظر إلى الرئيس السادات, رئيس جمهورية مصر العربية ، من خلال الخريطة الإدراكية الصهيونية. و حيث إن السادات قد أوقف الحوار المسلح، فقد حوله ديان إلى إنسان متخلف هامشي، شحاذ ليس له حقوق يمكن أن تهبه شيئا من قبيل الاعتدال الصهيوني . وقد كان ديان أكثر واقعية من الرئيس السادات ، فحسابات القوة الباردة في عالمنا لا تعرف الحق والحقيقة . ولو كان هناك وراء السادات تقف دبابة عربية ، تقف شامخة جميلة ، لما رآه ديان شحاذا يقف على عتباته