هذا الكتاب للمفكر عزمي بشارة هو جهد في تطوير نظرية في الطائفة والطائفية من جهة، ودراسة تاريخية سوسيولوجية لنشوء الطوائف. ويعتبر الكتاب المكون من خمسة عشر فصلًا (822 صفحة من القطع الكبير عدا الفهارس التي تصل إلى أكثر من 200 صفحة)، تقاطعًا معرفيًا مع مشروعٍ معرفيٍّ تراكمي يقوم به بشارة لدراسة تاريخ الظاهرة الدينية وعلاقتها بالعلمنة صدر منه جزءان بعنوان "الدين والعلمانية في سياقٍ تاريخيّ". ويتناول الكتاب عملية تحوّل الطائفية الاجتماعية إلى طائفية سياسية مستندًا إلى إطار نظري يشتبك فيه مع نظريات اجتماعية، وتحليل للتاريخ الاجتماعي، واستقراء نماذج من بلدان عربية مختلفة مع مقارنتها بنماذج غير عربية. ويتميز الكتاب بتطوير مفهوم للطائفية قائم على تعريفات جديدة لمفاهيم الطائفة والطائفية وإنتاج الطوائف المتخيلة بناء على بحث الظواهر، مناقشًا تطورها في التاريخ العربي الإسلامي، ومميزًا لها عن مفاهيم أخرى استخدمت لدراسة تطور الجماعات الدينية في السياق الغربيّ.
الطائفة بوصفها كيانًا متخيلًا
يتتبع بشارة في الفصل الأول نشوء الطائفية السياسية في السياق العربي مؤكدًا أن الطائفية ليست من إنتاج الطائفة بل العكس. فالطائفية هي التي تستدعي الطائفة من وعي الناس وتعيد إنتاجها ككيان متخيل في شروط تاريخية وسياسية حديثة، مؤكدًا أن فشل الدولة الوطنية وعجزها عن دمج الجماعات على أساس المواطنة، في محيط إقليمي يتسم بالصراع، أديا إلى استثمار الهوية الطائفية في الصراع على الدولة، ليتطور لاحقًا إلى صراع على تاريخ البلاد مشكلة "نحن" مقابل "هم".
ويتتبع الفصل الثاني التطوّر اللغوي والسوسيولوجي والتاريخيّ لمصطلح الطائفيّة الجديد تاريخيًا، ليميّز بينها وبين ظواهر تاريخية أخرى مثل المذهبية والفرقية ويدرس ما يتعلق بها من مفاهيم أخرى؛ مثل الهوية والانتماء والاختلاف والتعصب، متوصلًا عبر منهجية مقارنة إلى اعتبار الطائفية مصطلحًا حديثًا في حين أنّ الطائفة لفظ قديم بدلالات مختلفة عن دلالات المصطلح المحددة المعاصرة، مقارنًا بين تطور الظاهرة والمصطلح في سياق الفكر العربي الحديث من جهة وبروزها في السوسيولوجيا الغربية الحديثة من جهة ثانية، مؤكدًا أنَّ ما يميز الطائفة الدينية هو أنّها جماعة هوية تميز نفسها وتحدد الآخرين عبر الانتساب إلى العقيدة أو المذهب؛ إذ تعتبره محددًا اجتماعيًا وسياسيًا ذا أهمية، لتتحول في المجتمعات المتدينة، والمتعددة الديانات في الوقت ذاته، إلى كيان اجتماعي - سياسي له دور في المجال العمومي.
وينتقل بشارة في الفصل الثالث ليتتبع عملية المذهبة والتطييف التي أسست للصراع الشيعي السني الذي نعيش مظهرًا من مظاهره اليوم، بدايةً من تأسسه في القرنين الرابع والخامس الهجريين على مستوى الصراع المذهبي بين العلماء والفقهاء وكيفية تصديره إلى العامة بأشكال أخرى تنتج طوائف محلية في بغداد، مرورًا ببدايات عملية مذهبة العامة في زمن حكم المماليك للمشرق العربي ومذهبة الصفويين لإيران على الإثني عشرية في عصرهم، وأثر الحرب العثمانية - الصفوية بدءًا من القرن السادس عشر في عملية التطييف، مؤكدًا أنّ الصراع العثماني الصفوي قد سرّع بناء المؤسسة الفقهية العثمانية ومأسستها على أساس المذهبية الحنفية بقدر ما عمل "الشاهات" الصفويون الأوائل على تعزيز بناء مؤسسة فقهية شيعية إمامية، لتتطور المؤسستان الفقهيتان على نحوٍ يتكامل مع حاجات الجيش والقضاء وجهاز الإفتاء، ولتشرفا على جانب واسع من وظائف الضبط الاجتماعي والتكوين الأيديولوجي والتنشئة الاجتماعية. ويبين بشارة العلاقة بين عملية مذهبة الجمهور من أعلى والتمذهب ونشوء الطوائف الدينية.
الطائفة قديمًا والطائفية حديثًا
ويميز بشارة في الفصل الرابع الفرق بين الانتماء إلى الجماعة قديمًا والانتماء إليها في عصر الحداثة، فقد عنت العضوية في جماعة قديمًا أن يكون الفرد جزءًا من جماعة تنتج حياتها المادية وتدير نفسها في الحد الأدنى من علاقات التبادل مع الجماعات الأخرى، معبرةً عن حالة من التآلف والترابط بين جماعة المؤمنين الصغيرة التي تميزها طقوس وشعائر وأعياد ومواعيد خاصة بها. أما في العصر الحديث، فقد تفكّكت الجماعية الدينية بشكلها التقليدي، ليتراجع بذلك الرابط الديني وتتغلب عليه روابط أخرى أصبحت أكثر أهمية في حياة الفرد، مثل المهنة والمكانة الاجتماعية، والقومية والوطنية، والأيديولوجيا السياسية، أو غيرها. ليستنتج بشارة أن الرابطة بين أبناء الطائفة بمعناها الحديث هي علاقة معنوية تقوم على الانتماء بين أفراد لا يشكلون جماعة، بل جماعة متخيلة، وأن شرطها هو أفول الجماعات بمعناها القديم.
ويتتبع بشارة في الفصل الخامس الظروف التاريخية التي أدت إلى نشوء الفرق الإسلامية باعتبارها انقسامات عقيدية وليست كيانات اجتماعية، مشيرًا إلى أنه جرت في القرنين الثالث والرابع الهجريين عملية إسقاط الخلاف المذهبي والصراع السياسي على بدايات الإسلام، محوّلة الخلاف على الإمامة إلى خلاف عقيديّ متواصل ومتجسد في سردية تاريخية. فمسلمو هذين القرنين أيضًا (والنصف الثاني من القرن الثاني الهجري)، تذكروا التاريخ وكتبوه من زاوية نظر صراعاتهم، وبإسقاط رؤيتهم للعالم على بدايات الإسلام. فكتابة التاريخ من زاوية الحاضر لا تقتصر على عصرنا الراهن. وانتقل في الفصل السادس إلى توظيف الطائفية في العصر الحديث في جدلية عناصر الإصلاح والتحديث في العلاقة بين المركز والهامش والبنى التقليدية والتدخل الأجنبي وولوج العامة الفضاء العام، معالجًا تطوّرها في مناطق متعددة أبرزها جبل لبنان ودمشق في عام 1860.
الطائفة والدولة الحديثة
وينتقد بشارة في الفصل السابع نزوع عديد من الباحثين إلى استخدام العصبية الخلدونية في تفسير علاقة الطائفة بالدولة في العصر الحديث، مشددًا على ضرورة فهم أن الدولة الحديثة لا تقوم على عصبية لأنها تدعي تمثيل جميع أفراد المجتمع، موضحًا أن الدولة الحديثة هي التي تنشئ العصبية، وليست العصبية هي التي تؤسس الدولة. لينتقل في الفصل الثامن إلى التدقيق في الكيفية التي جرى بها توظيف الدولة للطائفية في دول معاصرة مثل إيران والسعودية وتقاطعها مع سياسات صناعة هويات وطنية محليّة، وهو الأمر الذي أدى أحيانًا إلى انقلاب هذا التوظيف ضد الدولة حينما استخدمت قوى المعارضة المتدينة والعلمانية ضد النخب الحاكمة كسبيل للصراع على المحاصصة في الدولة بعقلية الغنيمة والاغتنام، ليساهم التدخل الاستعماري لاحقًا في تكريس مقاربة الدولة العربية بوصفها دولة مؤلفة من طوائف أو قبائل أو جماعات هوية، مستغلةً سياسات الحكام المحليين لفرض دساتير طائفية كما جرى في العراق.
ويفند الفصل التاسع اعتبار الطائفية ظاهرة أصيلة في المجتمعات العربية وسوف تبقى دائمًا ملازمة لها، مؤكدًا أن السياسة لم تكن قائمة كمجال عمومي في عهود ما قبل الدولة الحديثة، حيث لم تول الزعامات أهمية لتسييس العامة، أو تطييف "طوائفها" سياسيًا، ولذلك لم تكن الطائفية السياسية ممكنة. وقد أشار بشارة إلى جهود النخب العلمانية العربية مبكرًا في مناهضة الطائفية من ناحية وفشلها في الاتفاق على معايير أخلاقية تضبط معايير التنافس على الحكم وهو الأمر الذي انتهى إلى استثارة عصبيّات طائفيّة من طرف الحكم والمعارضة. ويعالج الفصل العاشر العلاقة بين الطائفية والعلمانية، موضحًا أن علمنة منظومات المعرفة البشرية، أدت إلى انحسار الديانات "التقليدية" في حدودها، الذي اتخذ شكل توليد مذاهب فرعية في إطارِها، أو الانحسار في شكل الطائفيّة خاصة في المجتمعات التي لم تتبلور فيها الدولة - الأمة كيانًا قائمًا على أساس المواطنة، مستنتجًا أن الطائفيّة الحديثة والمستحدثة هي نتاج عملية علمنة "مشوهة".
الطائفية وثقافة المظلومية
ويستمر الكاتب في الفصل الحادي عشر في قراءة صيرورة الانتقال من الطائفة الدينية بما هي جماعة إلى الطائفة بوصفها جماعة متخيلة، ومن الطائفية الاجتماعية إلى الطائفية السياسية، مشددًا على مركزية بناء الذاكرة وكتابة التاريخ واستخدام السردية التاريخية في عملية بناءٍ واعٍ للهوية، في عملية تؤدي إلى توليد جماعة متخيلة تقمع الخيار الإيماني الفردي المتولّد وتنافس الانتماء إلى الجماعة الوطنيّة الأوسع لتصبح الطائفة في مرحلة متقدمة مركّبًا اجتماعيًا أيديولوجيًا فاعلًا في خصومة مع المواطنة، وضد الدولة الحديثة في الوقت ذاته، معالجًا وفق هذا النموذج التفسيريّ حالات عديدة من بينها حالة التشيع السياسي الحديث وحالة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). أما في الفصل الثاني عشر فيبين بشارة تحول الطائفيّة من شكل مشاركة العامة في المجال العمومي إلى عائق أمام هذه المشاركة، مجادلًا بأنَّ الأنظمة السياسية ذات الطابع التعددي لا تقوم على أساس الانتماء الديني، بل غالبًا على أساس إقليمي إداري، أو على أساس ثقافي إثني. ويعود ذلك، برأي بشارة، إلى أن هذه المؤسَّسات والبنى إنما قامت بفعل نكوص فكرة الاجتماع الديني واستبدالها بفكرة الكيان السياسي القائم على القوميّة أو على بناء الأمَّة بواسطة المواطنة.
ويناقش الكتاب في فصله الثالث عشر مصطلحات الأكثرية والأقلية في علاقتها بالمظلومية والتسامح، مبينًا أن أهم مميزات الطائفية هو نشر ثقافة المظلومية في كل الطوائف، بما فيها الطائفة التي تدار الدولة باسمها. ويؤكد بشارة أنّ جميع الطوائف في المجتمعات التي ابتليت بالطائفية تعتبر مظلومة، ولجميعها تاريخ من الظلم والقهر، ولجميعها ذاكرة قتل النساء والأطفال وهتك الأعراض، ولجميعها شهداء تعلق صورهم، ومناسبات تحيي فيها ذكراهم وذكرى المذابح التي وقعت في حقهم، فالجميع، برأي بشارة، مظلوم في أرض الطائفية، لأنّ الطوائف مظلومة بحكم تعريفها. ويعرّج الكاتب في الفصل نفسه على نشوء مفاهيم الأكثرية والأقلية الطائفية وعلاقتها بنشوء الدولة الوطنية، والخلط بينها وبين الأقلية والأكثرية الديمقراطية، إضافةً إلى مفهوم التسامح الذي قد يتعارض أحيانًا مع التعددية والمواطنة الديمقراطية.
في نقد الديمقراطية التوافقية
ويدرس الفصلان الأخيران نماذج معاصرة طغت المسألة الطائفية فيها على أنظمة الحكم وعلى عمليات كتابة الدستور. إذ يتناول الفصل الرابع عشر نموذجَي إيرلندا ولبنان لفهم تطوّر مفهوم الديمقراطية التوافقية ونقد ملاءمتها لحلّ الصراعات الطائفية، متعرضًا بالنقد والتحليل للنماذج المعاصرة التي تُقترح على مستوى النظام السياسي بمجمله من أجل تحقيق الاستقرار وتجنّب الصراع والحرب الأهلية، في حين قد تمهّد الطريق أحيانًا لاقتسام الدولة ممن يدعون تمثيلهم للطوائف. ويستنتج بشارة أن التوافقية، إذا لم تقم على أساس المواطنة المتساوية، لا تستحق صفة ديمقراطية، ولا يفترض أن تُسمّى "ديمقراطية توافقية". أما الفصل الخامس عشر فيدرس نموذج العراق بتوسع، رافضًا فكرةً انتشرت قبل احتلال العراق وبعده مفادها أنّ نظام البعث العراقي كان حُكم أقلية سنية لأغلبية شيعية، من خلال شرح طبيعة النظام العراقي ونخبه بوصفه نظام استبداد يقمع أي معارض له سواء أكان شيعيًا أم سنيًا، ومتطرقًا إلى عملية التشيّع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مرورًا بدور الحكم الملكي في بناء الدولة وصولًا إلى المرحلة الجمهورية.
يجد القارئ أيضًا في هذا الكتاب بحثًا شاملًا ومعمقًا في محاولة الإجابة عن أسئلة نظرية فكرية وأخرى تاريخية متعلقة بموضوع يهم الباحثين والقراء العاديين، إضافةً إلى خلفية نظرية مفيدة لمواجهة أزمة الطائفية في العالم العربي وإسقاطاتها الأخلاقية، كما يبحث في دور العوامل الداخلية والخارجية ودور التنافس بين النخب السياسية في صياغة الهوية الطائفية مدللًا على ذلك بنماذج تاريخية ومعاصرة.