كتاب المجتمع العراقي - تراث التسامح والتكاره بقلم رشيد الخيون.. تبدو فكرة أو ممارسة التعايش الديني والمذهبي العراقي مشدودة إلى حد ما إلى الخلفية التاريخية. ذلك بما فيها من أحداث مثقلة بالخصومة الدينية الطائفية والوئام على حد سواء، وبما فيها من نصوص دينية وفقهية وقومية، لا تساعد في الغالب من الأحيان على سلاسة العيش والتضامن والتكافل الاجتماعي، على اختلاف القوميات والأديان والمذاهب. وبطبيعة الحال، لا يبدو العراق هو البلد الناشز من بين بقية بلدان المنطقة في تعدده وفي تاريخية اضطراباته، لذا ليس من الصحيح تمييز العراق بتاريخ من العنف الدموي، أو العصيان، الذي لا يخفته، ويكبحه إلآ شخصيات من صنف ولاة أشداء قساة، في العصر الأموي مثلاً، من حجم: الحجاج بن يوسف الثقفي (95هـ/713م).
إلا أنه بعد قراءة تاريخ العراق، الفترة الإسلامية في الأقل، تبرز السياسة عاملاً مهماً في اضطراب التعايش بين أهل الجغرافيا الواحدة. كذلك تبرز في التقارب بين المكونات الاجتماعي، على شاكلة ما حدث بين الشيعة والسنة العام 442هـ/1050م، عندما اقتضت المصلحة الجماعية لأهالي بغداد أن يكونوا جمعاً واحداً ضد والي شرطتها. وعاد التاريخ نفسه بحوادث مشابهة العام 1920 حينما تمكن السياسيون من الجمع بين المولد النبوي وعزاء عاشوراء، حتى تماهت الحدود بين الفرح، حيث ميلاد نبي، وبين الحزن والنواح حيث قتل إمام. وعندما تنازل كل طرف عما احتفظ به من تعصب للمقدسات، والشعارات، التي طالما رفعها ضد خصمه في حمأة الخلافات.
هناك معوقات للتعايش بلا اضطرار تكرست في ثقافة فقهية وقومية، تشتد تأثيراتها بدوافع سياسية، مثلما هو الحال اليوم. ولا شك أن الاضطراب الاجتماعي، المتعاظم اليوم، ليس ابن يومه، بل ظهر عبر تراكم تخطى محطات عديدة من التسامح والوئام عبر التاريخ. ويبدو أنه كان منجراً من منجزات السياسة في كل الأعصر، وحالياً برز واضحاً في تشكيل الكيانات السياسية، التي قسمت العراق إلى غيتوات طائفية وقومية، العراق كان غائباً بينها. سبقها مجلس حكم كان التقسيم الطائفي عاملاً أساسياً في نشوئه.
حدث ذلك بعد غياب تراث العمل العراقي المشترك الحزبي والسياسي في عهود الدولة السابقة. وبالتأكيد كان عمل المعارضة العراقية السابقة متجهاً بهذا الاتجاه: أحزاباً شيعية، نشاطاً سنياً، وأحزاباً كوردية. ولم يكن للقوى ذات الاختلاط العراقي، من اليسار أو اليمين، أثر بليغ في الساحة. وذلك لأن خارطة العمل المعارضة حددت، من قبل، على أساس الهويات، حيث شدة الضربات ضد مناطق الكورد وضد الشيعة أسفرت عن العودة وبقوة إلى أحضان القومية أو المذهب.
جاء الفصل الأول في هذا الكراس محاولة للكشف عن مفهوم العراق جغرافياً وتاريخياً، فالحديث أخذ يجري، بلا كياسة، عن عراق موهوم. نشأ اسماً وحدوداً في عشرينيات القرن الماضي من قبل البريطانيين. ولا ريب، كم يكون هذا الطرح مؤثراً على التعايش الاجتماعي، إذا ما تكرست فكرة حداثة العراق بكامله! وكم سيكون مشجعاً ودافعاً إلى انهيار الدولة والمجتمع، وتقطيعه إلى جزر قومية وطائفية.
أما الفصل الثاني فكان حافلاً بالإرث التاريخي، بين حدث ورواية وتصور، ويمتد إلى حقبة زمنية غابرة، تارة وجد العراقيون فيها أنفسهم جنباً إلى جنب، على مختلف أديانهم، وتارة الديانات الأخرى مطاردة ومنكفئة على نفسها، تحت الرسمية. إلا أن التجربة السابقة واللاحقة تؤكد أن ما جرى ويجري، خارج الوئام والتعايش السلس، لا يتصدره ويمارسه غير عصبة من تلك الطائفة وهذا الدين، وليس الطائفة بأبيضها وأسودها، مثلما يقال.
وتم إلحاق التعايش الكاكائي، وهم جماعة ليسوا بالقليلة، بهذا الفصل، من دون أن ينبت بكونها من أهل الكتاب أو شبه الكتاب أو أن تجري معاملتهم مثل معاملة أهل الذمة، فتلك مفاهيم انتهت وليس لأي نظام، مهما كان مغرقاً في إسلاميته تطبيقها. إلا أن ما تسرب من الأسرار الكاكائية يفيد أنهم لا شيعة ولا سنة، ولهم قوامهم الديني، شأنهم شأن البهائيين، والسيخ، وغيرها من العقائد التي تفرعت ونمت واستلقت، على الرغم من التهمة، التي ما زالوا يتحملون وزرها، بأنهم غلاة بالإمام علي بن أبي طالب.
ويأتي الفصل الثالث مفصلاً لنماذج من التسامج والتكاره بين الشيعة والسنة، وهي متشابهة كثيراً على الرغم من اختلاف الأزمنة. فما حدث في أيام الخلافة العباسية تجده تكرر حذو النعل والنعل في بداية القرن العشرين، بل تجده يتكرر في القرن الحادي والعشرين. لكن الأحداث شهدت فشل انقياد الطائفتين أو المذهبين بمجملها في تصادم شامل. ومعلوم، أن عصب التعايش في المجتمع العراقي يعتمد اليوم اعتماداً كلياً على حالات الوئام والنزاع بين الطائفتين. ذلك من ناحية التمثيل السكاني، ومن ناحية الديانة الرسمية ومظاهرها التي على بقية الأديان ملاحظة تبجيلها.
وليس بمعزل عن وصايا الفقهاء ورسائلهم ضم الفصل الرابع ما يتعلق بالهاجس القومي، من ناحية الزواج والمعاملة، وهو ما يخلق مزيداً من الكراهية، على الرغم أن الفقهاء الذين أشاروا إلى منع أو عدم استحباب الزواج من الكورد، على أساس ما يعتقدونه من الجفاء والخشونة، والبعد عن الدين، وسط الجبال. لكن ذلك ليس مبرراً بل غير مفهوم لدى العامة المقلدين. وبالفعل لهذه الوصايا القديمة الجديدة، حسب ما رصدناها من كتب الفقه، تأثير في النفوس، ولا غرابة من إلحاق ما يخص الشبكيين في الهاجس القومي، فهو لا ديانة خاصة ولا مذهب خاص، حالهم حال بقية المسلمين: شيعتهم شيعة وسنتهم سنة.