كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية بقلم متى المسكين..بداية كل شيء اقول إنني غير متخصِّص في الطقوس وخاصة طقس المعمودية، ولم أعمِّد أحداً في حياتي. ولكن الذين اطَّلعوا على كتاب الإفخارستيا طالبوني في الحال بكتاب عن المعمودية على مستوى كتاب الإفخارستيا. فجزعت ولم أستجب للفكرة عدة سنوات لاقتناعي أني لست على مستوى طقس المعمودية، واصطلاحاته الأصلية غريبة عليَّ، سواء كانت يونانية أو لاتينية أو حتى العربية، فأنا لست في سن يسمح لي بالدراسة والحفظ.
ولكن لغيرتي الشديدة على تراث الكنيسة الذي اكتَسَبَتْه من المسيح والرسل، واستودعته كنزها، والذي ابتدأ يضمحل بصورة قاسية، لم أتمالك نفسي وصرخت وبكيت أمام الله أن يهبني في شيخوختي هذه المِنَّة التي هي عمل يُحيي تراثها. وباطلاعي صدفة على بعض الدراسات عن المعمودية أدركت في الحال أن هذ هو المفتاح لاسترداد هذا التراث. لأنه فعلاً من المعمودية انبثق كل تراث الكنيسة اللاهوتي والعملي في الحياة. وإن كان يبدو في هذا تهويلن لكنها هي الحقيقة كما سيراها القارئ بنفسه.
فأقدمت على القراءة والاطلاع على عدد بير من الدراسات الجادة عن المعمودية في الشرق والغرب. لأن الذي يلزم أن يعرفه القارئ أن سير المعمودية كان حتى القرن الرابع واحداً في جميع الكنائس شرقاً وغرباً، كما سيرى القارئ من شهادات الآباء القديسين من الشرق والغرب، الذين تعتمد عليهم كنيستنا، وذاع صيتهم وصاروا آباء الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية في كل العالم حتى القرن الرابع. وقد درستُ وجمعتُ تعاليمهم جميعاً من نصوصها الأصلية بأقلامهم، كما استعنت بكتب كثيرة عن المعمودية عبارة عن دراسات كلها متشابهة بقدر كبير لأنها قائمة على تعاليم الآباء القديسين الأوائل المعترف بهم في كل العالم. واستطعت أن أدرس وأقوم بالتأليف بآن واحد، لأن الموضوع -كما سبق وقلت- غريب عني ولا أملك مقوِّماته، فكان اعتمادي على كتب الآخرين هو دعامة هذا البحث الذي أقدِّمه للقارئ.
لكن لا أخفي عليك، يا قارئي العزيز، أني كنت أدرس تراث الآباء الرسل والآباء الرسوليين والأقدمين وقلبي يتهلَّل في داخلي. فكأني على شاطئ الفردوس أرى وأستمتع بما غرسه الأوَّلون الملهمون الأماجد من بدائع الأصول الأولى لمفهوم المسيحية، وكيف شبَّت وتربَّت الكنيسة على الماعني الروحية التي تسلب الروح والقلب والوجدان. بل والأعجب، كيف كانت تسقيها للهواة الداخلين فيها وهم وَلْهَانُون يودُّون أن يعبروا على الحواجز التي وُضِعَتْ أمامهم بحكمة حتى يتمَّموا البر ويتمعَّنوا الكلمة ويتذوَّقوا كم أن الرب صالح ووديع!
واصارحك القول، أني كنت أسير بين هذه الجنَّات والفراديس وكأنها غروسي الخاصة الموروثة، وأني أعرفها وأعرفهم كأقاربي وبني عمومتي. فالقبطي، يا قارئي اللبيب، يقرأ التراث والميراث حتى وإلى أرفع اللاهوتيات، كصاحب لها جميعاً، أو على أقل تقدير ابن صاحب أو قريب. فالعبادة عند القبط هي حياة، واللاهوت فيها تسليم جياة. أمَّا الأسرار فيها فهي كلمات اصطنعتها لتُعبِّر بها عن خصائث موروثاتها لكي لا تضيع بين أحاديث الصبية.
فإليك أنا اليوم أقدِّم أشهى مائدة لذوي المذاق الحسن على أصول تراثنا، صفحةً من أمجد صفحات التاريخ الليتورجي السرائري، حيًّا في ذاته وينبض بالحياة. ولكن كباقي تراثنا وميراثنا، فهو أثر حتى لأمجاد ذوت وانمحت. فهل من يد ترفع معي هذا التراث لتسقيه لبنيه أو بني صانعيه حتى يفيقوا من رقاد ويقوموا ويستقيموا ليعيشوا في النور؟
لذلك أصبح لزاماً لمن يدرس هذا السر الإلهي العظيم أن يعتبر نفسه نقطة انطلاق لإعادة مجد التراث واللاهوت الكنسي بعلمه وسلوكه.
والحاجة التي توجب هذه المعرفة وهذا السلوك تضعنا في مأزق، فإمَّا حياة أو موت. وواضح أننا نتخبَّط هذه الأيام في الحياة بلا فلسفة ولا نظرة ثابتة، ودوافعنا هوجاء، وقراراتنا غير حكيمة، سواء كنا أفراداً أو عائلة أو مجتمعاًن مع أن آباءنا كانوا سديدي الفكر ثابتي الإيمان، لا تؤثِّر فيهم التهديدات حتى وإلى الموت، لأن رجاءهم كان في السماء، والحياة الأبدية حيَّة في عقولهم وضمائرهم وعلى لسانهم مهما تزعزت الأمور في حولهم. والسر في ذلك هو ارتباطهم بالكنيسة والتراث والمثل العليا التي تلقَّنوها في الكنيسة، فنشأوا يدركون معنى وقيمة الحياة والشهادة، ابناً عن أب عن جدّ.
إذن نحن الآن في أشد الحاجة إلى دراسة جادة لأصول الإيمان التي تُبرزها تعاليم المعمودية وعلى أعلى مفهوماتها اللاهوتية العملية التي يقدِّمها لنا بولس الرسول. فنحن الأقباط لازلنا بالنسبة لمستوى الروح في الكنائس الأخرى نُحسب أننا أتقياء غالبون العالم، لأن ميراثنا لا يزال ينبض في أعماقنا ويحتاج أن يخرج إلى الوجود. وماضينا الروحي واللاهوتي هو القوة التي تزكّي نهضتنا الروحية التي ندعو إليها. هذا الماضي بحد ذاته هو القاعدة الجاهزة التي تمدّنا بالمعرفة الأرثوذكسي وفلسفتها في الحياة.
ودراسة المعمودية هي دراسة خبرة الأوائل جاهزة بفلسفة الموت والقيامة مع المسيح وتسليم الشركة في المسيح والحياة لله، حياة جديدة بالروح. اسمع قمة خبرة القديس يوحنا الرسول يبشِّر شعبه: "الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرتْ لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركةٌ معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً" (1يو 2:1-4). انظر أيها القارئ السعيد كيف أن الشركة مع المسيح هي خبرة ورؤية وفرح.
هذا هو السر في تقديم دراستنا هذه عن المعمودية، حتى تتجدَّد خبرة الكنيسة وتحقَّق دعوة هذا الرسول الصالح القديس.