كتاب دوستويفسكي بلا رتوش بقلم بافل فوكين .. عد مئة عام على رحيله، كتب الروائي الروسي فالنتين راسبوتين: «بفضل دوستويفسكي، تمكّن البشر من أن يعرفوا أشياء كثيرة عن ذواتهم، وما هو الشيء الذي لم يكونوا مستعدين بعد لإدراكه». هناك ما يقال على الدوام عن صاحب «مذلون مهانون» في توصيف طبائع النفس الإنسانية ونبشها وفحصها، لكن بافل فوكين يذهب إلى منطقة أخرى في كتابه «دوستويفسكي بلا رتوش» (دار رفوف ــ دمشق، ترجمة زياد الملّا) تتعلّق بشخصية فلاديمير دوستويفسكي (1821 ــ 1881)، كما عرفها مجايلوه عن كثب. شهادات تستعيد صورة هذا الروائي الفذّ بحضورها الكامل: هيئته الخارجية، سلوكه اليومي، رحلاته خارج روسيا، مأكولاته المفضّلة، علاقاته النسائية، ديونه وإيراداته، المصائب التي واجهته خلال حياته المضطربة، وإذا بنا أمام شخصية مركّبة، هي مزيج من شخصياته الروائية نفسها بكل أحوالها المتبدّلة، وألغازها المعقّدة، وجنونها الطليق، وقبل ذلك كله، التأثير العاصف الذي أحدثه الكاتب في تاريخ الأدب الروسي، فهو أنجز ثماني روايات، و25 قصة طويلة، ومئات المقالات خلال 35 سنة.
في الواقع، إن غزارته في الكتابة لا تتعلّق بثراء أفكاره وحسب، بل لتخفيف فاتورة الديون التي جعلته «يعمل دوماً في عجلة، ولم يتيسّر له حتى قراءة ما يكتبه».
هذه المهنة الشاقة التي اختارها بشغف وتصميم وولع، كانت تفرض عليه ساعات طويلة من العمل الليلي بصحبة الشاي الأسود الثقيل، قبل أن يخلد إلى النوم في الرابعة صباحاً. تنقّل صاحب «ذكريات من بيت الموتى» بين أكثر من مسكن، وكان يفضّل دوماً، بيوتاً بسلالم ومعابر. أما غرفة الكتابة، فهي غالباً ما تكون معتمة، وبنوافذ ضيّقة، وطاولة تتراكم فوقها الصحف والمجلات وسجائر اللفّ. أما نوبات الصرع، فقد رافقته إلى كل الأمكنة، منذ أن حُكم عليه بالأعمال الشاقة. سنجد في روايته «الأبله» وصفاً دقيقاً للأحاسيس التي تنتاب المريض خلال نوبة الصرع. هناك مصيبة أخرى، رافقت دوستويفسكي إلى آخر يوم في حياته، هي تراكم الديوان، وقد احتاج إلى 30 سنة لتسديدها. لم يكن صاحب «الأخوة كارامازوف» مرفّهاً، على غرار تورغنيف، وتولستوي، وغونتشاروف، ففيما كان الناشرون يتنافسون على طباعة روايات هؤلاء، كان على دوستويفسكي أن يعرض أعماله على المجلات، وهكذا حصل لقاء رواياته: «الجريمة والعقاب»، و«الأبله»، و«الشياطين» على مئة وخمسين روبلاً لقاء الصفحة المطبوعة، وهو مبلغ أقل بثلاث مرات مما كان يحصل عليه تولستوي مثلاً.
في قائمة وُجدت بين أوراقه، نقرأ حيثيات دخله من رواياته، فهو يسجّل أن مبيعات «الجريمة والعقاب» قد وصلت إلى 487 روبلاً في عام 1877، وستقفز بعد عامين إلى 933 روبلاً. لا تتوقف مكابداته عند هذا الحدّ، فبسبب انتسابه إلى جمعية سريّة مناهضة للقيصر، اعتُقل، وسُجن في قلعة، وحُكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص، لكن موت القيصر، قبل لحظات من تنفيذ الحكم، أنقذه من موت محقّق. كان يتساءل وهو يتجه إلى ساحة الإعدام: «هل من المعقول ألا أمسك القلم بيدي؟ يا إلهي ما أكثر الشخصيات التي ظلت حيّة، فهي ستهلك وتنطفئ في رأسي! إذا كان من المستحيل أن أكتب، فأنا سأهلك، من الأفضل أن أُسجن 15 سنة، والقلم باليد».
بالطبع، ستترك فترة نفيه في سيبيريا ندوباً قوية في روحه، الفترة التي سجلها في كتابه «ذكريات من بيت الموتى»، وبدا، كما لو أنه دانتي آخر هبط إلى الجحيم. القصص التي نشرها في مجلة «فريميا» عن منفاه، أحدثت دويّاً واسعاً، في أوساط القراء الروس، وهو ما جعله يعترف بشيء من الافتخار أمام صديقه نيقولاي ستراخوف: «اسمي يساوي مليوناً». ويروي ألكسندر كروغلوف واقعة تتعلق بأهمية هذا الروائي الفذّ؛ إذ رفع أحد مرافقيه قبعته أثناء عبور دوستويفسكي الشارع، وحين سأله: هل تعرفه؟ أجاب «شخصياً لا أعرفه، أنا لم أنحنِ بل خلعت القبعة عن رأسي، مثلما أفعل دوماً، عندما أمرّ بجانب نصب بوشكين التذكاري».
رحل صاحب «الليالي البيضاء» مساء 28 كانون الثاني (يناير)، إثر نزف في الحنجرة، وودعته بطرسبورغ بموكب يحمل 67 إكليلاً من الزهر، فيما كانت 15 فرقة كورال تنشد وراء الجنازة