كتاب الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي: تحليل في خضم الأحداث

تأليف : عزمي بشارة

النوعية : السياسة

وكأنه كتب على الشعب الفلسطيني أن يدحرج صخرة سيزيف إلى أعلى منحدر النكبة في كل جولة لتحبطه من جديد تطورات دولية. قررت بريطانيا العام 1939 ضرب الثورة الفلسطينية بقسوة بالغة لا تتناسب مع حجم الثورة،

 لكي لا تنشغل إلى معارك جانبية في المستعمرات عشية الحرب العالمية الثانية. والعام 1948 اختلطت المواقف الدولية عن الشعب الفلسطيني بإسقاطات المحرقة والمسألة اليهودية التي طرحت بإلحاح على المستوى الدولي. والعام 1967 اتسعت المأساة الفلسطينية، وقد ساهم في ذلك قرار إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا الدخول في صدام مباشر مع التيار القومي العربي وضربه عسكرياً. والعام 1982، تمكنت إسرائيل من خوض مقاومتها العسكرية في لبنان لأن مخططاتها انسجمت مع توجهات ريغان وتاتشر في المواجهة على الصعيد العالمي. وقد اصطدمت الانتفاضة الأولى بحرب الخليج، كما في عالمنا، من دون فهم حقيقة أن القضية الفلسطينية لا تشابه من حيث اتساع وكثافة حيثياتها الدولية أية قضية وطنية أخرى في التاريخ الحديث. لا بد إذاً عند الشكوى والتذمر من تعثر الإنجازات الفلسطينية على المستوى الدولي من أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، كأحد الظروف الموضوعية المعطاة. ولا فائدة من حذفها من بين الاعتبارات عند وضع الاستراتيجية، ثم الشكوى بعد ذلك من تطورات عالمية مفاجئة. لا توجد ولم توجد قضية وطنية تأثرت وتتأثر بالأحداث الدولية، كما تتأثر قضية الشعب الفلسطيني.

ولذلك، فإن الشكوى من اصطدام الانتفاضة اصطدمت بانهيار الاتحاد السوفياتي والتغيير العاصف الذي طرأ على الفضاء السياسي والاستراتيجي الإقليمي والعالمي الذي نشأت وعملت في إطاره حركة التحرر الوطني الفلسطيني. يضاف إلى ذلك كله، حقيقة أن القضية الفلسطينية تتشابك منذ نشوئها مع المسألة اليهودية كقضية تحرص الصهيونية على بقائها مفتوحة عالمياً تمثلها دولة إسرائيل. من الصعب التعامل مع تعقيدات القضية الفلسطينية، بل مع نشوئها، في الوقت الذي انتصرت فيها حركات تحرر وطني في العالم أجمع، وازدياد تعقيدها مع حل القضايا الكولونيالية الأخرى برد الفعل الإسرائيلي والعالمي على "الإرهاب" بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، واستغلال الموقف للادعاء بأن الانتفاضة لم تجلب سوى الكوارث هي تعبير عن اصطناع المفاجأة مما يجري على الساحة الدولية من أجل تمرير شعور بعدم الرضى عن طريق النضال والمقاومة. وما هذا الشعور في الواقع سوى موقف سياسي سابق للتطورات الدولية. لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً بالأرواح والخسائر البشرية والمادية بلغ أضعاف ثمن الانتفاضة السابقة في سنتها الأولى. ولم يتراجع هذا الشعب البطل حتى اللحظة عن منطلقات وأهداف الانتفاضة السياسية الضمنية التي لم تعلن في يوم من الأيام: الإصرار على أن التسوية إما أن تكون عادلة ومنصفة وإما أن لا تكون.

انطلاقاً من رؤيته هذه يعرض عزمي بشارة في هذا الكتاب لمنعطف تاريخي دخلته القضية الفلسطينية منذ انهيار مفاوضات "كامب ديفيد" الثانية واندلاع انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، والمنعطف ذاك تمثل في واقعتين مِفْصَليتين متلازمتين: وصول عملية التسوية القائمة على "اتفاق أوسلو" إلى انسداد سياسي تام امتنعت معه على الاستئناف، ودخول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي طوراً جديداً من الاشتباك المادي لا سابق له في الحدّة كما كشفت عن ذلك الانتفاضة والمقاومة، وما أتى في ركابها من موجات متعاقبة من العمليات الاستشهادية، ثم القمع الإسرائيلي الوحشي للشعب والانتفاضة، والذي بلغ حدّ إعادة احتلال مناطق السلطة وإعمال التدمير المنهجي الشامل للبنى التحتية الحياتية ولمؤسسات السلطة، ناهيك عن سياسات القتل الجماعي والاغتيالات المنظمة، وسياسات التجويع والخنق الاقتصادي، وتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية وتحويلها إلى أرخبيل مؤلف من عشرات الأقفاص والمعازل.. الخ.

وانطلاقاً من هذا كله يمكن القول بأن هذا الكتاب هو كناية عن وثيقة إدانة للدولة العبرية، ولسياسات نخبها الصهيونية من اليمين و"اليسار". وهي وثيقة مكتنزة بالإفادات والشواهد الناطقة بانطلاق غريزة القتل الإسرائيلية من أي عقال سياسي أو أخلاقي، في امتداد الأزمة التي دفعت الانتفاضة المجتمع الإسرائيلي إليها، مثلما هي تستأنف ما كان قد دشّن فيه القول صاحبها (د.عزمي بشارة) في كتابه السابق: "العرب في إسرائيل رؤية من الداخل" من محاولة إماطة اللثام عن وجه "إسرائيل" المتلفع برداء ديموقراطي سوّقت به نفسها طويلاً في العالم الخارجي.

وليس من شك في أن أهم ما قدمته مقاربة د.عزمي بشارة للمجتمع الإسرائيلي في هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ، هو تحليله لمنحى العنصرية الصاعد في هذا المجتمع في تعاطيه مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، والذي بات عاماً وشاملاً سائر قواه السياسية الصهيونية بغير استثناء.

والكتاب إلى هذا شهادة إدانة دامغة الأدلة للحل العنصري الصهيوني لقضية فلسطين وهي شهادة إدانة تشتق أهميتها من أنها صادرة، ابتداءً، عن رمز كبير من رموز الحركة الوطنية الفلسطينية جمع إلى التزامه الوطني والقومي الأصيل عمقاً معرفياً غنياً وسعة أفق في النظر إلى القضية الوطنية الفلسطينية في تشابك علائقها بقضايا الأمة العربية. ثم أن الأهمية تأتيها، من وجه آخر، من أنها شهادة من الداخل: تراقب، وترصد، ثم تحلل آليات صنع السياسة في الكيان الصهيوني، والأشكال المختلفة للتعبير عنها.

فعزمي بشارة هو مؤسس "التجمع القومي الديموقراطي" الحزب السياسي الذي يمثله في الكنيست منذ العام 1996، إلا أنه ونظراً لمواقفه السياسية الناهضة للاحتلال الإسرائيلي تمّ رفع الحصانة عنه كعضو في الكنيست الإسرائيلي وذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 1996، إلا أن نضاله ما زال مستمراً ضد ممارسات هذا الكيان وسياساته

شارك الكتاب مع اصدقائك