كتاب الشيخ والتنوير: عن الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة وعصر التنوير في البحرين بقلم نادر كاظم .....على الرغم من أهمية الحقبة التي تمتد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى النصف الأولى من القرن العشرين في تاريخ الثقافة الحديثة في بلد مثل البحرين وبقية بلدان الخليج، فإن الاهتمام بهذه الحقبة كان محدوداً، أما الاهتمام الجادّ
والمتقصي فيكاد يكون منعدماً. ومن هنا يكتسب كتاب "الشيخ والتنوير" لنادر كاظم أهميته الخاصة، فالكتاب يمثّل محاولة جادة للحفر المتقصّي في الطبقة التحتية الأولى من طبقات تاريخ التنوير في البحرين والخليج. يحاول الكتاب إعادة تركيب السياق التاريخي للتنوير في البحرين وهو يرتكز على أرشيف واسع من الوثائق والصور، ويقرأ التنوير البحريني في سياق تشابكه واتصاله الوثيق مع التنوير العربي والغربي في آن واحد.يتبنّى الكتاب مفهوم التّنوير الذي صاغه إمانويل كانط في مقالته القصيرة والشّهيرة والتي جاءت كجواب عن سؤال "ما التّنوير؟" (1784). وبحسب كانط فإنّ التّنوير "هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه"، والمقصود بالقصور هنا هو عجز الإنسان عن استعمال عقله دون وصاية أو توجيه أو إرشاد من أحد أو من جهة ما. إنّ التّنوير، على هذا التّعريف، يعني الاستقلال الفكريّ والشّجاعة والجرأة على الفهم واستعمال الإنسان لعقله دون وصاية، وهي حالة تقع على الضّدّ من الانسياق الأعمى وراء أفكار الآخرين وآرائهم مثلما ينساق القطيع. وبحسب كانط فإنّ شعار التّنوير هو التّالي: "تجرّأ على أن تعرف، وكن جريئًا في استعمال عقلك أنت" لا عقل الآخرين.وعلى مدى (520 صفحة) يعيد نادر كاظم قراءة تاريخ التنوير في البحرين من منظور مغاير، وعبر هذا المفهوم الكانطي للتنوير، ومن خلال قراءة رصينة ترتكز على إسهامات ثلاثة من رواد التنوير وشيوخه: الشّيخ إبراهيم بن محمّد الخليفة، شيخ التّنوير في البحرين، والذي يمثّل الضوء الأول في تاريخ التنوير (بالمعنى الكانطي)، وذلك عبر مطالبته المستديمة بمجاراة روح العصر والانفتاح على العالم، وعبر شغفه الكبير بالكتب والمجلات العصريّة التي ما كانت تأتي، آنذاك، لأحد في البحرين سواه، وعبر تأسيس المجال العام الحديث الأوّل في البحرين (منتدى الشّيخ إبراهيم الثقافي)، والمكتبة الحديثة الأولى، ووكالة استيراد الكتب الأولى، ومدرسة التّعليم العصريّ الوطنيّة الأولى (مدرسة الهداية الخليفية). وهو المعنى التنويري ذاته الذي أخذ أبعادًا أعمق وأوسع مع ناصر الخيري، شيخ المؤرخين البحرينيين وأحد أبرز روّاد منتدى الشّيخ إبراهيم وأكثر المثقّفين البحرينيين جرأةً وتحرّرًا فكريًّا خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين. أمّا الشّيخ الأزهريّ محمّد صالح خنجي، القريب من الشّيخ إبراهيم وزميل ناصر الخيري في "نادي إقبال أوال اللّيليّ"، فهو صاحب أوّل وأجرأ محاولة في تأصيل التّسامح دينيًّا. وعلى الرّغم من صعوبة التّحقق من اطّلاعه على "رسالة في التّسامح" لجون لوك، و"العقل في حدود مجرد العقل" لإمانويل كانط، فإنّ فحص محاضرته الوحيدة التي وصلتنا من بين محاضرات "نادي إقبال أوال اللّيليّ"، يثبت مدى التّقارب الكبير بين هذه المحاضرة و"رسالة في التّسامح"، و"الدّين في حدود مجرد العقل". وقبل سنوات طويلة من ظهور أبرز أطروحات "القراءات الحداثيّة" للدّين والنّص الدّينيّ (عبد الكريم سروش، وفضل الرّحمن مالك، وعبد المجيد الشّرفي، ونصر حامد أبو زيد، ومحمّد أركون، وآخرين)، كان هذا الشّيخ الأزهريّ قد توصّل إلى أهميّة الحاجة إلى تقديم قراءة "حداثيّة" للدّين والشّريعة تقوم على التّمييز بين ما هو جوهريّ في الدّين (الإيمان والفضيلة)، وما هو تاريخيّ في الشّريعة والتّنظيمات البشريّة المعنيّة بحفظ المصالح ودفع المفاسد الدّنيويّة، فالأوّل هو جوهر الدّين، وهو واحد في كلّ الأديان، فيما الثّاني تنظيم بشريّ، ويتغيّر بتغيّر الأوضاع والظّروف والمعطيات.لم ينتبه أحد إلى خطورة هذه الأفكار وقتها، حتّى إن كثيرًا من الحاضرين الذين استمعوا لمحاضرة الشّيخ محمّد صالح في "نادي إقبال أوال اللّيليّ" في العام 1913 لم يفهموا الكثير مما جاء فيها. وهذا طبع الأفكار العظيمة التي تسبق عصرها، لكنّها فرصتنا الآن لا لفهم هذا الأفكار واستيعابها جيّدًا في وقت تغرق مجتمعاتنا في كلّ أنواع التّعصّب والانغلاق على الذّات والتّدمير الذّاتيّ، أقول إنّ هذه فرصتنا لا لاستيعاب أفكار روّاد التّنوير الأوائل فحسب، بل للاعتراف بحجم مديونيّتنا تجاههم، وإنّ الوقت والمال والتّعب والعذابات المضنية ومشاعر اليأس والإحباط التي كانت تأكل في أرواحهم، هي الثّمن الذي كان لا بدّ من أن يتحمّل جيل ما تقديمه من أجل تمهيد الطّريق، أمامنا وأمام أجيال متعاقبة من قبلنا ومن بعدنا (لعلي أحتاج إلى تذكيركم بمقولة الشّيخ إبراهيم: "ربّ جيلٍ به سعادة أجيال"). في بدايات القرن العشرين دار حوار في بريطانيا بين فرجينيا وولف وت. س. إليوت حول مسألة القطيعة مع الماضي. كانت وولف تدافع عن قطيعة جذريّة مع الماضي، فإذا كنّا الآن نرى أبعد من شكسبير، فما الحاجة إلى شكسبير؟ كان جواب إليوت كالتّالي: "أنا الآن أرى أبعد من شكسبير لأنّني أقف على كتفيه". وهو مجازٌ استعاره إليوت من إسحاق نيوتن عندما قال: "لقد رأيت أبعد من غيري لأنّني أقف على أكتاف العمالقة" كان يشير إلى أولئك العلماء الذين سبقوه من أمثال كوبرنيكوس وغاليليو وكبلر. ووفقًا لهذا المجاز، يعيد هذا الكتاب تذكيرنا بأن بهذه الحقيقة: إذا كنّا نرى الآن أبعد وأعمق فلأنّنا نقف على أكتاف ذلك الجيل الذي مهّدت إسهاماته الطّريق أمامنا إلى التّعليم الحديث، ومطالعة الكتب والمجلّات "العصريّة"، وامتلاك الشّجاعة الكافية لاستخدام عقولنا بلا وصاية، والعيش في عصرنا ومجاراة روحه بفكرٍ مفتوحٍ على العالم، وعلى التّشارك الإنسانيّ.