كتاب في رحاب الرحلة الطاهرة بقلم سميرة محمد الشيزاوي .. قال تعالى : }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ{ . وقال سبحانه : }إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود{ قَالَ ابن أبي حاتم : كَانَتِ الْبُيُوتُ قِبْلَةً، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ الله. قال مجاهد : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى . نسب الله عز وجل البيت إلى نفسه إعلاماً لخلقه بما لهذا البيت من قدسية وحرمة وإجلال، وتكريماً له وتشريفاً، وضعه في الأرض للناس جميعاً يلوذون به، ويثوبون إليه، وظل البيت محجة للناس على اختلاف عقائدهم وتلون عباداتهم التي تلوثت بالشرك والجهالات، إلى أن أكرم الله البشرية ببعثة الرسول الأعظم محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، فطهر بيت الله من الأوثان والأصنام، ومنذ السنة العاشرة للهجرة لم يحج إلى البيت كافر، أو يطوف بالبيت عريان على عادة أهل الجاهلية حيث كانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا طاهرين كما ولدوا، بغير الثياب التي أذنبوا فيها، فكان أحدهم إذا بلغ باب المسجد الحرام قال لقريش من يعيرني ثوباً أطوف به؟ فإن أعطاه قرشي ثوباً طاف فيه، وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد، ثم طاف سبعاً عرياناً، فإذا فرغ من طوافه نزعها، ثم طرحها في المسعى فلا يمسّها أحد ولا ينتفع بها، حتى تبلَى مِن وَطْءِ الأقدام، ومن الشمس والرياح والمطر. ويسمون تلك الثياب (اللقى)، قال أهل العلم : وفي ذلك نزل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ، قال ابن عباس : )والطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب ( . وحينما أذن ربنا الرحمن بتجلي النور الذي أرسله الله هدى للعالمين ، دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح المسجد الحرام، والأصنام منصوبة حول الكعبة، فجعل يطعن بعودٍ في عيونها ووجوهها، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} ، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ، ثم أمر بها فكُفِئَت على وجوهها، ثم أُخرِجَت من المسجد فحُرِّقَت، وبفضل الله تطهرت القلوب ، وتحررت العقول من براثن الشرك والجهل وعادت إلى الكعبة القدسية والطهارة التامة من الشرك وأهله، وأصبحت قبلة المسلمين التي يلتفت الناس حولها في صلواتهم، ويطوفون بها في الليل والنهــار لا ينقطع طوافهم إلا في الصلوات الخمس. إن كل مناسك الحج، بدءًا من الطواف بالكعبة، مرورًا بالصفا والمروة، ثم الوقوف بعرفة ، ثم الهبوط إلى مزدلفة، ثم المبيت بمنى، ورمي الجمرات ، وانتهاء بوداع الكعبة إنما هي تطبيق حي لمعنى شعار الدين ومفتاح الإسلام “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وتجديد للعهد والميثاق مع الله في الخضوع والانقياد له جل جلاله ، والاعتراف بالنعمة والفضل في الاصطفاء، قال تعالى : }هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ{ . وحين صدح نبي الأمة بكلمته الخالدة : (إني لأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا) ، متشبثا بالدعوة لرب السماء - متخليا ومتنازلا عن الانتقام لشخصه وكرامته إذ ما هو إلا عبد اختار ما عند الله - امتن الله عليه ، وأتم النعمة على أمته قال تعالى : }وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{ ، وخرج رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وسلم إلى مكة عام حجة الوداع التي لم يحج من المدينة منذ هاجر عليه السلام إليها غيرها، وعرفت هذه الحجَّة بحجَّة الوداع؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم ودَّع النَّاس فيها ولم يحجَّ بعدها ،وحجَّة البلاغ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم بلَّغ النَّاس شرع الله في الحجِّ قولًا وعملًا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيءٌ إلا وقد بيَّنه، فلمَّا بيَّن لهم شريعة الحجِّ، ووضَّحه، وشرحه، أنزل الله عليه، وهو بأعلى جبل عرفة}الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا{