كتاب كاسندرا

تأليف : مروة صلاح الدين

النوعية : مجموعة قصص

كتاب كاسندرا بقلم مروة صلاح الدين ...المقدمة:كان القمر الفضي يضفي ضيائه على شتى الأنحاء في هذا الليل الحالك السواد، معطيا منظراً مهيباً للبرية من تحته، حيث يلمع على سطح الجبل العالي ويلقي بضيائه على المناجم المحيطة، ويبرز المخيم المنير، الذي تشغله قبيلة الغجر وعشيرتها، معطيا لها شكلاً خيالياً يجعل الناظر إليه يحسبه جزءً

 منفصل أو مضافاً حديثاً للوحة البرية التي أمامه والتي تمثل ليلة رومانسية في غاية الروعة......أصغت "كاسندرا" جيداً للأصوات المحيطة وهي حريصة على عدم إحداث أي جلبة قد تكشفها بينما تبتعد خلسة عن أضواء المخيم، وتسير على أطراف أصابعها حتى لا تصدر قدميها صوتاً على العشب الجاف حول الوادي المتجه نزولاً نحو ضيعة "آل التاميرانو"....."أنت تتصرفين بجنون....".أخبرتها "ليتيسيا" صديقتها والتي تعتبرها كشقيقتها حيث أن جدها قد رباها كما لو كانت ابنته، لكونها فقدت والديها وهي بعد رضيعة في حادث مميت، برفقة "كاسندرا" التي شبت على أساس أن "ليتيسيا" أختها، فكانتا تتشاركان بكل الأسرار وهي الوحيدة التي تعلم بعلاقتها "بإجناسيو"."لا تقلقي... لن يعلم أحد... وإذا سألك جدي عن غيابي.. أخبريه أنني نائمة...".رفعت "ليتيسيا" يديها بعجز بينما "كاسندرا" تبتعد بصمت ثم قذفت لها قبلة في الهواء وهي تحث الخطى نحو موعدها مع حبيبها "إجناسيو"..... الذي عند ذكر اسمه شعرت على الفور بقلبها يقرع مثل الطبول يصم أذنيها...... نعم أنها تعشقه...... كما وأنها متأكدة من أنه يحبها كذلك.... حتى ولو لم يبح لها حتى الآن بمشاعره، فهي واضحة وضوح الشمس في عينيه حين ينظر إليها.كان "إجناسيو" شديد الوسامة أسمر البشرة، طويل القامة، عريض المنكبين، شعره الحالك السواد طويل قليلاً ليغطي بداية كتفيه في قصة رائعة تبرز عينيه السوداوين اللامعة التي ترى نفسها من خلالهما حين ينظر إليها بكل الوله والشوق.....شخصيته الآسرة التي تجعلها تشعر كما لو كانت تعيش في حُلمٍ وهمي، بعالمٍ خياليِ متعدد الألوان، يلمع بالأشياء البراقة المبهجة للنفس.لقد كانت قد عرفت الكثير عن عائلة "التاميرانو" منذ استقرارهم في مخيمهم الحالي، حيث حياتهم كغجر رُحّل تجعلهم في انتقال دائم من مكان إلى آخر، فقد جمعت العديد من المعلومات عن مدى شهرتهم وحجم ثروتهم، الشيء الذي لم يكن يهمها على الإطلاق بقدر ما كان يهمها جمع كل المعلومات المتاحة عن الوسيم "إجناسيو" وريث عرش العائلة ومناجم الفضة التابعة لها.كادت أن تتعثر خطواتها من شدة لهفتها للوصول إليه ورنت أساورها بصوت رنان فتمالكت نفسها وهي تضحك على مدى تلهفها للقائه... ثم تطلعت حولها داعية الله ألا تكون قد لفتت نظر أحدهم حيث أصدرت أساورها الصوت حين تعثرت... ولم تجد أحداً فأكملت طريقها تسابق الريح ذهاباً إليه...تعرفت "كاسندرا" على "إجناسيو" بإحدي حفلات السمر التي تقيمها عشيرتها ليلاً لتعرض فيها منتجاتها من الملابس والأحجار والأكسسوارت للبيع بالمدن التي تمر بها.كان "إجناسيو" في تلك الليلة ساهراً مع مجموعة من رفاقه، بعينيه نظرة لا مبالية وهو يتطلع حوله بالمخيم يبدو عليه السأم...... ذلك السأم الذي سرعان ما تحول لاهتمام واضح وبدأت عينيه تلمعان عند رؤية المرأة التي تحركت لوسط دائرة النار بالمخيم فور بدء الموسيقى استعداداً وتأهباً للرقص..... أخذ يتأمل جسدها النحيل وبشرتها السمراء اللامعة، شعرها الطويل الأسود الذي يصل لمنتصف فخديها وهو يتمايل بحرية حول قدها الرشيق بشكل بري يلائم عينيها السوداء المكحلة باللون الأسود الحاد الذي يعطي لهما جاذبية وسحر غريب لم يصادفه من قبل بحياته.رفعت المرأة يديها الممتلئة بالأساور الذهبية فوق رأسها ثم صفقت مرتين قبل أن تبدأ بالرقص الحسي على أنغام الموسيقى، والأساور حول يديها وقدميها تصدر أنغاماً مماثلة للمعزوفات التي تصدح بالمخيم.....تمايل قوامها الساحر على أنغام الموسيقى برقصة سريعة برية بينما لمحت بطرف عينيها وجود "إجناسيو" مما جعلهما تلمعان على الفور، استمرت بالدوران على أنغام الموسيقى وهي لا تستطيع قطع التواصل البصري بين عينيهما.استمر تواصل نظراتهما طوال فترة الرقص حتى توقفت الموسيقى دون أن يشعر "إجناسيو" بذلك، ثم كما لو كان بعينيها مغناطيس يشد نظره إليها..... تحرك جسده نحوها فور توقف الموسيقى وإنصراف الناس من حول حلقة النار دون أن تكون له أي سيطرة على حركة قدميه....أخذت "كاسندرا" تراقب "إجناسيو" بينما هو يتحرك نحوها وعلى الفور انسحبت ببطء لمكان مظلم في نهاية المخيم دون أن تقوى على قطع التواصل البصري بينهما، حين وصل إليها سحبها نحوه على الفور وهي تشعر بتسارع نبضها وعدم إنتظام تنفسها من جراء ملامسة صدرها الغض لصدره القوي ولمسة يده المحكمة على خصرها، سألها:"أين كنت؟.... لقد كنت بانتظارك منذ وقت طويل" قال بنعومة."أنا؟!.... كنت تنتظرني أنا؟!" سألت بصوت يقرب إلى الهمس لا يكاد يكون مسموعاً."نعم..... فأنت حوريتي السمراء التي ظهرت لي من خلال نار المخيم بليل الصحراء الكالح".همس في أذنيها قبل أن يسحق فمها بفمه في قبلة ذهبت بأنفاسها وسلبتها دفاعاتها دون أن تقوى على المقاومة، حين ابتعد عنها لإلتقاط أنفاسه حاولت الإفلات فأحكم قبضته عليها وهو يضع يده الأخرى على صدرها ناحية القلب قائلاً:"لا.... لا تبتعدي، فقلبك هنا يعرفني ويعرف أنك لي..... لي أنا، وبدءاً من هذه الليلة أنت أسيرتي" ثم أكمل إمتاعها بأروع القبلات التي تركتها ثملة..... ثملة من الرغبة و..... والحب كما عرفت لاحقاً.عادت من ذكرياتها عن حبيبها حين ظهر لها من البعيد الكوخ المتهدم الذي يقع على حدود ضيعة "التاميرانو" الذي تلتقي حبيبها فيه سراً، إنه هناك الآن بانتظارها.... ازدادت دقات قلبها من الإثارة والترقب... لقد تعددت اللقاءات بينهما كثيراً وتوالت سهراتهما من بعد ليلة المخيم، فقد كانا يتواعدان كل ليلة ويقضيان أروع الأوقات معاً، يتحدثان في شتى الأمور....لقد عرفت عنه عدم ثقته بالمرأة ليس لسبب سوى إنه لم يكن لها وجود ثابت في حياته، حيث توفي كلا والديه وهو في الثانية من العمر، إثر حادث طائرة أليم، وجده هو من تولى تربيته.... هذا ما جعل "كاسندرا" تحاول خلال فترة الشهر والنصف الماضية أن تجعله يثق بها وبعلاقتهما ويفتح لها قلبه ليدع حبهما يصالحه على العالم المحيط، وكانت على استعداد لتثبت له ذلك بأي طريقة وأياً كان الثمن....لاح لها شكل جسده المتململ يقف بباب الكوخ بانتظار حضورها وحين شعر برنين الأساور الخاص بها انتصب واقفاً على عجل تبدو لهفته لملاقاتها واضحة في هرولته ناحيتها لاستقبالها.... غمرها فوراً بين ذراعيه ثم دخلا على عجل ليحتميا بالكوخ من الأعين التي قد تدركهما وتخبر أي من عائلتيهما فتندلع حرب لا يمكن إخمادها.بمجرد دخولها الكوخ وتعوّد عينيها على الظلمة بداخله طالعها ضوء ضعيف لبعض الشموع المعطرة والتي كان قد أشعلها "إجناسيو" قبيل وصولها، وأضفت على الكوخ جواً رومانسياً بديعاً ورائحة عطرة تُذِهب الحواس.....كان قد أشعل ناراً بالمدفأة القديمة الموجودة بجانب الكوخ، وأعد لهما فراشاً وثيراً من التبن والقش مغطى بغطاء صوفي، بجانبه على الأرض وضع دلو به زجاجة من الشمبانيا ذات السائل الذهبي اللامع وصينية عليها ما لذ وطاب من أنواع الطعام والفاكهة!.التفتت نحوه تتطلع إليه ونظرة تساؤل في عينيها..... فأجابتها عينيه بما تعجز عنه الكلمات، واستقر في ذهنها إنها تحبه وتثق به ولن تدعه يشك في حبها له... بل ستثبت له بكل ما لديها إنه يستطيع أن يثق بها، وإنها ستهبه أعز ما تملك لتقنعه بذلك......ستجعله يأتي دوماً بالمقدمة حتى ولو على حساب نفسها.... ومبادئها..... وعقيدتها..... وقوانين عشيرتها.... بل وأيضاً عذريتها، والتي كانت شيئاً ثميناً لديهم هم الغجر....***************شعرت "كاسندرا" بشعاع من الضوء القوي يقع على عينيها مبدداً ظلمة ودفء الكوخ، ثم شعرت ببعض الجلبة التي عكرت عليها صفو استمتاعها بالدفء بين ذراعي "إجناسيو"، بعد ليلة حب لا تنسى قضاياها سوياً..... ثم شعرت بيديه وهي تُسحب من حول خصرها..... تلاها شعور رهيب بالبرد والخوف ثم شعور مؤلم!.... من جراء ضربها بشيء حاد على ظهرها، ففتحت عينيها لتواجهها نظرات جدها المرعبة وبندقيته المصوبة نحوهما هي و"إجناسيو"."يا إلهي ستقتله!!! جدي أرجوك، فلتستمع إلي إنه لا ذنب له.... إنه......"."فلتخرسي، لا أريد أن أسمع صوتك.... لقد انشققت عن عشيرتنا، وضربت بتقاليدنا وعقائدنا عرض الحائط، وحسابك سيكون معي أنا".ثم التفت "لإجناسيو" وعينيه تقطر سماً وتقدح شرراً قائلاً:"أما أنت....... فستموت حتماً، ألا تعلم أن شرفنا نحن الغجر لا يطهره سوى الدم...." قال وهو يرفع بندقيته لرأس "إجناسيو".شعرت "كاسندرا" بإنسحاب الدم من رأسها وهي ترى جدها وقد تحول إلى وحشٍ كاسر، يهدر شرراً من بين عينيه.... وجهه أحمر اللون بدرجة كبيرة، بينما ملامحه التي كانت تجدها دوماً حنونة وفي حنانها هذا كانت تجد ملاذها من هذا العالم، قد تحولت لملامح شخصٍ قاسي مرعب يسعى للانتقام ولا يتوانى عن القتل إذا تطلب الأمر!!!.....أجل القتل، وقتل من..... حبيبها الذي لن تستطيع العيش بدونه...... أول من عرفها معنى الحب..... أول من أمتلكها جسداً وروحاً..... لا، لا لن تستطيع الوقوف ساكنة ومشاهدة حبيبها يضيع منها!!!.نظرت نحو "إجناسيو" ونظرة السخرية التي تعلو وجهه، وعلامات التحدي البادية بعينيه بينما جدها يصوب بندقيته نحو رأسه.*يا إلهي لقد أرادت أن تثبت "لإجناسيو" كم تحبه ولكنها بدلاً من ذلك ستكون السبب في موته....... يا إلهي ساعدني!!!!* فكرت "كاسندرا" ثم وبدون أن تشعر رمت بنفسها بين "إجناسيو" وفوهة بندقية جدها وخطفت فوهة البندقية ووضعتها بصدرها وقالت:"جدي على الرصاصة أن تخترق جسدي أولاً، فلن أترك حبيبي يموت بمفرده!!!"

شارك الكتاب مع اصدقائك