لقد وقع حادث دل على أن شقيقي حسن البنا رحمه الله مسوق إلى قدره. فبعد أن أتم الدراسة، تبدى خيال دار العلوم، وعزمت مجموعة من زملائه على التقدم إليها. وفي الوقت نفسه، عينه المجلس المحلي للبحيرة مدرسًا في قرية "خربتا"،
وكان كل شيء يوحي بقبول هذا التعيين، فهو يتيح له أن يكون مدرسًا، ويحقق له الاستقلال، وقد يمكنه من إعانة الأسرة، ويبقيه قريبًا من المحمودية وما حولها. كما كانت تتملك شقيقي وقتئذ مشاعر الزهد في المناصب والعزوف عن الشهادات، وأن الحرص عليها فيه شبهة الإقبال على الدنيا والتمسك بمظاهر الجاه والثراء، وهي حالة نفسية تتفق مع المشاعر والأحاسيس الصوفية التي انغمس فيها وقتئذ، وبوجه خاص بعد قراءة "الإحياء" للغزالي والتأثر به. وكاد حسن أن يستسلم لمشاعره تلك، فلم يستذكر ما يؤهله للتقدم للقسم العالي بدار العلوم، لولا أن وضع الله في طريقه رجلًا، كان التقدير متبادلًا بينهما، واستطاع بلباقة أن يحمله على التقدم.. ومرة أخرى، فأنا أرى أن دار العلوم وحدها هي التي كان يمكن أن تخرج الداعية الإسلامي المطلوب، لأن الدراسة الأزهرية لها طريقة متعسفة تقليدية محدودة، ودار العلوم هي الوحيدة التي تجعل دارسها متمكنًا في اللغة العربية وآدابها، والعلوم الإسلامية، إلى جانب حظ غير قليل من علوم التاريخ والاجتماع. وهناك وقائع أخرى تؤكد ما قدرته من أن عناية الله كانت تهيئ المسار لشقيقي حسن، فهذا القسم العالي لدار العلوم كان سيلغى في العام التالي، ولو لم ينتهز هذه الفرصة لاستحال عليه دخول دار العلوم. وصاحبه توفيق غير مألوف في الكشف الطبي والامتحان التحريري، وأخيرًا فإنه عندما دخلها كان يجب أن ينجح بتفوق، حتى يضمن التعيين، لأن الوزارة لم تعين من الناجحين إلا خمسة أو ستة. فعندما جاء ترتيبه الأول بين الناجحين، فإنه ضمن التعيين وقطع على الوساطات التي كان يمكن أن تؤخر توظيف الثالث أو الرابع، فتحقق التعيين. وجاء هذا التعيين في الاسماعيلية، التي لم يطلبها أو يستشعر نحوها عاطفة خاصة من حب أو كره، لأنها كانت هي المهد الأمثل لظهور دعوة الإخوان.. ويحدث أن تحكم الظروف على الناس بأن يحترفوا مهنًا لا يحبونها، لأنها لا تتفق مع قابلياتهم وملكاتهم، فيشقون بهذا وتتشتت جهودهم ما بين هواية وحرفة.. ولكن حسن أراد أن يكون معلمًا، ومعلم بنين على وجه التحديد، وتلك مهنة لم تكن الطلبة (بضم الطاء وسكون اللام) التقليدية للطموحين من الفتيان، الذين يجدون في المحاماة أو الطب أو الهندسة الطريق الموصل للمناصب العليا والثروة والشهرة. وكانت مهنة التدريس بالذات مهنة متعبة، ولكن حسن كان يرى في التعليم سبيلًا للهداية، التي حث عليها الإسلام، وأن تعليم الصغار تأهيل لتعليم الكبار، وهذا واضح تمام من موضوع الإنشاء الشهير، الذي كتبه قبيل تخرجه ردًا على سؤال "اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها"، وبلور فيه حسن رسالته العامة والخاصة، فحققت له دار العلوم ما أراد، فأصبح معلمًا، وحقق له التعليم أيضًا ما أراد، وقدم إليه خبرات ثمينة ساعدته في تعليم الكبار واكتساب الجماهير، منها الأسلوب التربوي الذي أخذته الدعوة، ومنها القدرة الفائقة على تذكر الوجوه وحفظ الأسماء، وهي ملكة يمكن أن تكون من الملكات الشخصية له، ولكن لا بد أن ممارسة التعليم في الفصول قد نمتها وعمقتها.