رواية الميكانيكي بقلم طاهر الزهراني..الغفلة لا تستمر مع الإنسان، هي مرحلة كأي مرحلة في الحياة، ينتقل إليها الإنسان بحسب العجل الذي زرع فيه، إن مرحلة الغفلة تشبه إلى حدٍ قريب الطفولة، الأيام الأولى، عندما كان الواحد منا يتقلب في الأحضان، ينام كثيرا، يستمع للغناء، ينصت للتناغي، ينقل إلى الأيدي دون احتجاج، يغمر بالعطور، والزيوت الطبيعية الشفافة، يدهن بالكريمات، وتنثر عليه البودرة البيضاء، ثم تصدر منه تلك الرائحة الفريدة، يقتربون من ملامحه، يشمونه، يقبلونه، يحضنوه، وهو يعيش أجواء عالم بسيط ومحدود، ثم يبتعد الطفل عن هذه البراءة بمقدار بعده عن الحليب، ونبض الأمهات.
بعد أن يتخطى الإنسان تلك المرحلة، يبدأ في التشوه، والاختلاط بالحياة، والناس، والانغمار بالشقاء، أو يختار التوحد والعزلة فيكون أقرب للتوحش.
أعترف أني قضيت فترة طويلة من عمري غافلا، لم يكن خيارا، وإنما هو أشبه ما يكون بالحظ، كل إنسان له حظٌ من الغفلة، وغفلتي استمرت طويلاً، ورغم مفارقات الظروف إلا أني عشتها بحب.
مكان الغفلة لم يكن مثاليا، والعمل فيه لم يكن حلما، لكني تصالحت معه درجة الانسجام، ذلك الانسجام الذي نجده في النسيج الواحد، هكذا حياتي في هذا المكان حيث الورش، الضجيج، والآلات، الروائح المنفرة، الكربون الأسود، الزيوت التي تشرّبها المكان، الشحوم الثقيلة، الأكوام الهائلة من الخردة، والقطع المستعملة، والركام البشع من النفايات.
البشر الذين أعيش معهم هنا هم سر بهجة المكان، ورغم المكان الذي يبدو بشعا، إلا أنهم يحملون قلوبا تنبض بالحياة.
في هذا المكان العالم محدود جدا، الأفكار متواضعة، الأحلام قريبة؛ إلى درجة مباشرتها حال التطاول!
تلاشت الغفلة عندما وجدتكِ، أصبح العالم ممتدا، والحياة عميقة، والألوان أكثر زهوا، حضرتِ فرحلت الغفلة، وجاء الحب، وأصبحت الأحلام عالية، والأفكار معقدة، والكون أرحب، بدأ الوعي بكِ ينمو، حتى إذا فقدت الصلة بأسباب العيش غاب كل شيء وحضر الصحو وغيابكِ، لهذا لم أجد مهربا منكِ إليكِ إلا بمحاولات التخفف، التخفف ببطء.